روت لي جدتي أن مربي أغنام عاش بسعادة وهناء في إحدى القرى البعيدة الجميلة وكأنه يعيش في جنة، إلى أن دخل مرحلة صعبة آلمتهُ كثيراً، حتى ظن أن الطريق مسدود، وأن العيش –في أطيب بقعةٍ وأجمل قرية في نظره- بات مستحيلاً. حيث أن جاره كان له خمسة كلاب ركنها عنده مذ كانت جراءً صغيرةً وبات يطعمها من اللحم ما يُقسي سريرتها ويُوجِع قضمتها، وينشر الرعب في قلب من يسمع نباحها. وكان قد اعتاد على تركها حرة من غير حزامٍ طليقة.
وكان هو الأول لديه ما يزيد على عشرة أغنام يعتاشُ من حليبها ولحمها وصوفها وكان يأنس في رعايتها وإطعامها بما تعود عليه من روثٍ يسمِد به أرضه التي يعشق والتي يراها وجوده وأمانه. وكان كل حين يستيقظ وقد نهشت الكلاب إحدى أغنامه وأكلتها فقرر أن يتخذ إجراءاً حاسماً فاستعان بجاره ليضع حدا لها، ولكنه كان يُكثِر الوعود دون جدوى، فرفع عليه دعوى للقاضي، فغضب الجار حتى بات يسرق هو منها اقتصاصاً من الراعي والدعوى التي رفعت ضده.
استعان الجار بإخوته وزوجته ليعينوه على حل هذه المعضلة فاقترح الأخ الأصغر قتل الكلاب ذبحاً واقترح الآخر تسميمها أما الأخ الأكبر فنصحه أن يترك القرية وأرضه وينتقل إلى مكان آخر.
أما الزوجة؛ بصوت هادئ عميق مفكر يستجلي بُعد نظرها ما هو ضمان للطرفين فقالت: “أعطهِ اثنتين منها”، تعجب الرجل، فأعادت عليه القول وهي تتلفظ بهذه الكلمات: “اعطه اثنتين منها وليذُق طعم السلام”.
حينما فعل الراعي ذلك بدأ الجار العدو يهتم بأغنامه الجديدة ويشذب صوفها ويهتم بغذائها ورعيها وأمانها وانتبه لخطورة الكلاب وبات يربطها وما إن مرت خمسة أعوام حتى غطت الأغنام وصغارها عدداً أرضي الجارين وكانوا في وئام وخير وسعادة لا توصف.
هذه الحكاية بعبرتها تتكرر منذ الأزل في كل زمان باختلاف الأمكنة وأبطالها وأحداثها لكنها كلها تدور حول محور واحد هو (السلام) ودور الاستخدام الرشيد الحكيم للقوة (وقوة الفكر تحديداً) للوصول لحالة السلام والتي أنقذت الملايين عبر العصور من كوارث بشرية وأحداث يندى لها الجبين.
السلام.. هل يعرَف.. وكيف يُعرَف؟
هذه الكلمة محدودة الحروف لامحدودة الاتساع والعمق، هل يوجد من عرفها وأحاط بها فعلاً؟
إن بدأنا بأصل الكلمة اللغوي ومصدرها في القواميس ومعاجم اللغات كمعجم المعاني الجامع فإننا نجد أن الكلمة وكل ما يشتق عنها من مفردات شتى (سَلَمَ، سلِمَ، سلامة، تسليم، سليم، السِّلم، سالِم.. الخ) كلها تدور حول الخلو من الأذى والضرر والنقائص والعيوب والبراءة من الخلل، والأمن والصلح والعافية والنجاة. فكانت هذه الكلمة وما يشابهها تطلق على الحالة المثالية من سلامة العيش والفكر والتي يسعى لها الإنسان وينزع بفطرته السليمة لها منذ أن بدأت الحياة على الأرض.
حاول الكثيرون ان يضعوا تعريفاً لهذه الحالة او أن يصفوا شكلها وماهيتها ويضعوا لها محددات تحيط بها وما من شكل نهائي توصلوا إليه يكفي ليكون تعريفاً نصياً يحيط بها، لكن الجميع اتفق على آثارها ونتائجها البناءة وصبغتها الإنسانية البحتة وما تحويه من حوامل قيمية تستند عليها. وأنها الحالة التي يستحيل بها أن تلحق الضرر لأي موجود على هذا الكوكب فالسلام لا يتجزأ، وإن زعمت مجموعة ما أنها تمارس او تنشر السلام مع مجتمعاتها بوسائل وأدوات وممارسات تلحق الأذى بذاتها أو بغيرها او ببيئتها سواء البشرية أو الطبيعية فهو ليس بالسلام الحقيقي الصرف المتكامل. قس على ذلك أنك لتعرف أن ما تفعله يعكس السلام المتكامل اسأل نفسك: هل ما أفعله أو أعتقد به يحقق السلام وعدم الأذى على كافة المستويات (المستوى الشخصي (جسدي ونفسي) – العائلي – المجتمعي – البيئي – الإنساني – الكوني -…الخ) فإن ظهر الأذى والعنف بإحدى هذه المستويات فعليك أن تعترف أن ما تسعى إليه هو سلام منقوص الأركان إذ لا يتحقق السلام المتكامل بوجوب ضرر أو أذى أو عنف أو خلل لأي من مكونات هذه المستويات.
في العصر الحديث كان الحديث حول هذا المفهوم والبحث فيه وتعريفه هو أحد أهم القضايا التي تشغل مفكري عصر الحروب والنزاعات والتطورات والانتكاسات، وازداد الغوص فيه مع ملايين ضحايا الحروب الساخنة والباردة والكوارث فجاءت إحدى التعريفات له عقب الحربين العالميتين بأنه “غياب الحرب.” كما عرف بأنه “غياب العنف أو الشر وحلول العدالة.” وعرف أيضاً بأنه “عبارة عن محصلة التفاعل ما بين النظام المدني والعدالة الاجتماعية وحالة من الأمن والاستقرار تسود العالم وتتيح التطور والازدهار للجميع”. أو أنه الأمان وحفظ الكرامة والعمل على وجود مصالح مشتركة تحقق قيام حضارة تقوم على احترام الذات واحترام الأخر والتمسك بالعدل واحترام العدالة وتوفير الرقي لجميع الأجناس البشرية على وجه الأرض بل وتهدأ بوجوده جميع الكائنات الحيةْ.
السلام الدولي والعالمي: يبنى، يُصنع ويحفظ!! والغريق لا ينقذ غريق..
ظهرت مفاهيم عديدة حول السلام العالمي لقياس وتحديد درجته وشكله وأدواته واستدامة أثره منها صناعة السلام وحفظ السلام وبناء السلام وغيرها ولكن قبل أن نتحدث بكل ما هو عالمي علينا وبأمانة أن نعترف مع ذواتنا أننا لنحقق سلاماً عالمياً أياً كان تصنيفه واسمه يجب أن نبدأ من جذر هذا العالم ونقطة المنطلق، ألا وهو الإنسان. لقد شاع في العقود الأخيرة ذكر مفهوم السلام الداخلي وكيفية بنائه الحقيقي مع الذات لينعكس بذلك على الحالة الجمعية المجتمعية، وبدأت علوم الاجتماع والنفس والمجتمع تفكر بشكل أكثر جدية بهذه النواة وتخصص الموارد والدراسات والأبحاث حولها ولأنه وكما تقول الحكمة (الغريق لا يستطيع أن ينقذ غريقاً آخر) فإن من أخذ على عاتقه رسالة السلام واتخذ السلام طريقاً وغاية لا بد له أن يكون بالحد الأدنى متشبعاً به وممارساً له ويسعى لأن يعكسه في كافة سلوكياته مع ذاته وعلى كافة المستويات؛ فكرياً ونفسياً وجسدياً.
أما بالنسبة للمفاهيم العالمية الحديثة للسلام والمرتبطة بدول وأطراف وجماعات، فإننا اليوم سوف نوجز المفاهيم الثلاث الأكثر شيوعاً.
صناعة السلام Peace making
التفاوض والحوار لتفهم الاحتياجات وإيجاد الحلول
وهي الجهود المطروحة لتسوية الصراع عن طريق الوساطة والمفاوضات، ويمكن استخدام الأنواع الثانية للتسوية السلمية. وإن هذه الأنشطة تكون محاوطة عملياً في المستوى السياسي، وعادة تكون في محل مكان مساعد لعمليات حفظ السلام، وعرفها دليل المصطلحات العربية الجهود التي يقوم بها الأطراف الأساسيون والثانويون، سواءً على عاتقهم أو بمُساعدة طرف ثالث، لبحث أسباب النزاع وإدراك مصالح واحتياجات كُل طرف بغرض إرضاء تلك المصالح والاحتياجات، ويتم صنع السلام عادة عن طريق التفاوض والتحاور بين الأطراف حتى يتسنى لهم تفهم احتياجات ومصالح الآخر، وإيجاد حُلول مُشتركة أو حُلول وُسطى تُرضيهم.
وهنا وجب التنويه حول أهمية الوساطة في تطبيق جميع مفاهيم السلام المذكورة وصولاً إلى بناء توافقات حقيقي يرضي جميع أطراف النزاع، حيث عرفها دليل توجيهات الوساطة للأمم المتحدة أنها عملية يقوم من خلالها طرف ثالث محايد مقبول بمساعدة طرفين أو أكثر، بموافقة تلك الأطراف، بمنع نشوب نزاع أو إدارته أو حله عن طريق مساعدة الأطراف على وضع اتفاقيات مقبولة للجميع.
حفظ السلام Peace keeping
احتواء ووساطة لاستعادة اللاعنف
يشير هذا المصطلح إلى الاحتواء والوساطة، والتباعد بين أطراف الصراع عن طريق دخول طرف دولي ثالث بشكل مباشر ومنظم، لأجل رد السلام. وفي تعريف آخر يُشير إلى الجهود التي تُتخذ أثناء النزاع بغرض تخفيض أو إزالة مظاهر العنف وتثبيت تفاعلات النزاع على درجة من اللاعنف؛ يُمكن معها استكشاف أساليب لحل وإصلاح النزاع. إن الغرض من حفظ السلام ليس هُو حل النزاع من جُذوره، وإنما استعادة حالة اللاعنف.
بناء السلام Peace Building
حطم سيفك.. وتناول معولك
إنَّ مفهوم بناء السلام يُشير إلى تحديد البُنى ودعمها، في حين أنّ هذه البُنى، مهمتها ترسيخ وتفعيل السلام وتمكينه، وذلك لعدم الانجرار والزج في صراعات جديدة، وعدم تكرارها مرة أُخرى، الأمر الذي أدَّى لنشوء ما يُعرف بالدبلوماسية الوقائية، وأساسها تعاون عدة جهات، والعمل يداً واحدة وبشكلٍ دائمٍ وواضح المعالم، لحل الصعوبات والمُعضلات التي تواجه الفرد، سواء أكانت إنسانية أم ثقافية أم اجتماعية وحتى الاقتصادية، كون هذه المشكلات أو إحداها هي السبب الرئيسي لنشوب الحروب والنزاعات عبر التاريخ.
وهو الحالة الأشمل والأعمق والأكثر استدامة. إذ أن أحد أهم رسائل السلام حول العالم تلك التي عمرها ما يزيد على 5000 عام قبل الميلادية والتي نقشت بالحروف المسمارية الأوغاريتية في موقع رأس شمرا في اللاذقية تحمل رسالة الإله بعل (حطم سيفك وتناول معولك واتبعني.. لنزرع السلام والمحبة في كبد الأرض.. أنت سوري وسورية مركز الأرض) هذه الوصية التي اتخذت رسالة أبدية وشعاراً ومنهجاً لبناء السلام يوضح أهمية وقف العنف والبناء الإنساني على كافة المستويات. وهنا يلخص دليل المُصطلحات العربية في دراسات السلام وحل النزاعات المفاهيم الثلاثة بالآتي:
- حفظ السلام يهدف إلى إدارة النزاع.
- صنع السلام يهدف إلى حل النزاع..
- بناء السلام يهدف إلى إصلاح النزاع وصولاً للوقاية.
مبادرون وبناء السلام
بناء الثقة والتفاهم لدعم التعايش السلمي واستدامته
تساهم مبادرون في بناء السلام من خلال بناء وتعزيز الثقة ورفع مستوياتها بين السوريين عن طريق دعم الأفراد والمؤسسات وصولاً للمجتمعات وتمكينها وبناء قدراتهم من خلال تطوير برامج متخصصة تدعم أركان السلام المجتمعي المستدام وتشجع الأفراد والمنظمات والشركات والجهات الفاعلة على تبادل الخبرات والمعارف والمهارات والموارد بما يتوافق مع قيمها ويصب في رؤيتها في دعم التعايش السلمي واستدامته وتعزيز المسؤولية الشخصية والمجتمعية وفتح مساحات مشتركة للحوار ودعم المشاريع الاجتماعية والمبادرات واستراتيجيات التدخل التي تدعم بناء السلام في سوريا.
وتؤمن مبادرون أنها لتكون قادرة على الوصول إلى رؤيتها يتوجب عليها العمل على تحقيق النتائج الرئيسية التالية:
- مجتمعات لديها القدرة للتعامل مع النزاعات بشكل بناء وفعال.
- مؤسسات المجتمع المدني مسؤولة وقادرة على مناصرة قضايا المجتمع.
- مؤسسات المجتمع المدني تعمل مع بعضها البعض بشكل فاعل.
- الشباب والميسرون يحفزون إحداث الأثر الإيجابي في مجتمعاتهم.
وكل ما سبق يتم بإشراك المجتمع وتفعيل دوره ودعمه ليستثمر موارده المعرفية والمادية المتاحة وخبراته ويبني الشراكات من خلال عدة استراتيجيات وأدوات كالتيسير وورشات البرامج النوعية وبناء القدرات الفردية والمؤسساتية.
السلام.. ليس موضة موسم:
خلاصة القول أن كل مؤمن بالسلام وعامل حقيقي من عمال السلام على هذا الكوكب أياً كان دوره وأدواته يؤمن أن السلام لا يُحدد بيوم من أيام العام لنحتفل به وهذا منطقي فعلاً لأن السلام ليست حالة مؤقتة أو تذكار ليوم أو (موضة موسم) لكن وجود يوم مرتبط بتاريخ ما فرصة سنوية لاستعراض بانوراما سلوكياتنا واعتقاداتنا وأفكارنا الفردية والجمعية حول كل ما حدث ويحدث معنا، ولكل محطة زرناها وتجربة خضناها، ودعوة لمراجعة حصاد عام كامل من خطوات السلام (الداخلية والخارجية) صنعاً، حفظاً وبناءاً.