“لنجلس إلى الطاولة المستديرة” تتكرر هذه العبارة في كل مرة تتعالى أصوات النقاش، حتى بين أفراد البيت الواحد، في محاولة من كل طرف أن يثبت صحة رأيه بإشارةٍ مبطنة لخطأ الطرف الآخر، بيد أنّ الاختلاف على نوع وجبة الغداء أو وجهة العطلة الصيفيّة لا يشبه النزاعات التي من الممكن أن تؤدي إلى حروبٍ طويلة.
ومع تزايد اللجوء إلى أساليب العنف والحلول اللاسلمية في معالجة النزاعات، تتنامى الحاجة إلى وجود طرق سلمية لحلّها، وصولاً إلى حالة بناء سلام بين الأطراف المتنازعة، فليس من الضرورة أن يكون أحدنا على صواب والآخر على خطأ، هناك احتمالاتٌ كثيرةٌ أخرى.
ومــن أجــل التوفيـق بيــن مبادرات الحــوار والواقع الملموس علــى الأرض، لابــدّ مــن إجــراء تقييــم شــامل للنّــزاع، والــذي يمكـن القيـام بـه مـن خـلال اسـتخدام أدوات تحليـل النزاع، وفـي معظـم الحـالات، فـإنّ فَهـم القضيـة والسياق والجهات الرئيسـية الفاعلة فـي النّـزاع سيسـاعد فـي وضـع مبـادرة الحـوار علـى أرضيـّة صلبة، فلا يعدّ الحوار غايةً بحدّ ذاته، بل هو الوسيلة المتمثّلة بتوجيه الإدراك بشكلٍ مستمر لحلّ النزاعات.
مفهوم الحوار:
غالباً ما يُستخدم مصطلح الحوار باللهجة العاميّة للإشارة إلى أيّ نوعٍ من المحادثات، حيث يعتبر في بعض الأحيان مرادفاً لمصطلح النقاش أو الجدال، وكثيراً ما يُجمع بينه وبين مفهوم “الوساطة”.
وعلى الرّغم من تعدّد التّعاريف والمفاهيم حول مصطلح الحوار لا يسعنا إلّا أن نعترف بالقوّة والجماليّة الكامنة في تنوّع التفسيرات المعطاة للمصطلح، سواءً من حيث معناه أو كيفية تطبيقه.
الحــوار هــو الوسيلة الرائجــة للتواصـل، والتــي تتواجــد فــي التّفاعـلات اليوميّــة للمجتمعات، وهــو آليّةٌ مغــروسةٌ فــي الثقافـة والدّيـن فـي منطقـة الشـرق الأوسـط، حيـث يُمكـن ملاحظة مبـادئ الشّـورى والصلـح فـي الجـذور الدينيّـة والتاريخيـّة للمنطقة.
ليــس بالضّــرورة أن تقــوم عمليــة الحــوار علــى مبــدأ الاتفــاق مــع الآخــر فــي الــرأي، فيُمكــن للأشــخاص والمجتمعات التأقلم والتعايش بشـكلٍ سـلميٍ مـن خـلال احتـرام بعضهـم البعـض دون الحاجـة إلـى الاتّفـاق مـع مـا يعتقـده أو يقـوم بـه الطـرف الآخَـر، فالانفتاح والإصغاء والقدرة على التخلي عن الأحكام المسبقة قد يمكّن أشخاص أصحاب خلفيـات سكانيّة مختلفـة، واحتياجات وتوقُّعـات متنوعـة أن يتعايشوا معـاً، وهذا ما يجعل من هذه الصفات صفات جوهريّة في عملية الحوار الفعّال.
ولذلك يعتبر التكيّف صفة جوهرية للحوار الفعّال.
المبادئ الأساسية للحوار:
بالعودة إلى تراثنا فمن الممكن أن تذكرّنا عبارة “مبادئ الحوار” بما كان يجري في “مضافة مختار الحي أو القرية” من نقاشاتٍ ومشاوراتٍ لحلّ النزاعات وردّ الحقوق إلى أصحابها عن طريق حسن إدارة الحوار والمعرفة بكافة حثيثات النزاع للوصول إلى أرضٍ مشتركة يبدأ عليها بناء الحلّ المشترك، ولعلّ رمز “فنجان القهوة المرّة” كان بمثابة النيّة الحسنة التي تقرّب الأطراف من بعضها، وتجعل الضيف في أمان المضيف.
وكما أنّ للتّشـاور والحوار جـذورٌ ثقافيّة متأصلّـة فـي وجـدان منطقتنا، فهنـاك أيضـاً آليات تمّ استحداثها فـي الغـرب لتيسـير عمليـة الحـوار بهدف فضّ النّزاعات، والتي بُنيت بناءً على دراسة عملية الحوار دراسة أكاديميّة واجتماعيّة بهدف الوصول إلى أسس حوارٍ سليم يقود المجتمعات إلى الضّفة الآمنة، و نستطيع تلخيصها ب:
- الشموليّة، بما يعني فتح الباب لمشاركة مُنصفة وفعّالة لممثلي جميع الجهات المعنية.
- الإنسانيّة.
- الخصوصيّة، أي الثقة التي تُبنى أثناء عملية الحوار، لجعل المشاركين أكثر قابليّة للانفتاح.
- النيّة الحسنة.
- القابليّة للمعرفة، وهي الاستماع بشكلٍ منفتح لجميع الأطراف بهدف الإلمام بكافّة جوانب الحوار.
- التبني المشترك للقضيّة، أي الإيمان بأنّ الحوار صادق ويستحق المشاركة فيه.
- وجهة نظرٍ طويلة الأمد، بما يضمن الوصول لحلولٍ دائمة متجاوزاً الحلول الفورية المؤقتة.
الوساطة كجزءٍ من الحوار:
تعتبر كل من الوساطة والحوار أداتين مترابطتين تتسم كلٍ منهما بخصائصها الفريدة، وتفرّق بينهما اختلافات هامّة، فالحوار آلية شاملة لحلّ النزاعات بشكلٍ فعّال، أي أنّه كمصطلح أكثر عموميّة من الوساطة التي تستخدم لمعالجة نزاعاتٍ معيّنة، فهي تعمل على تحقيق نتائج ملموسة وقصيرة الأمد نسبياً.
عن طريق استخدام أدوات الوساطة الناجحة، نستطيع الوصول إلى التخفيف من حدّة النزاع الفعليّة، وتقليص نتائجه، بما يعني أنّ الوساطة بمجملها تركّز على النتيجة، لكن من الممكن أن لا تصل إلى أي نتائج في نطاق نزاعاتٍ يَغلب عليها طابع العنف، بينما تمتلك عملية الحوار الفرصة الأكبر للاستمرار بالتزامن مع نزاعاتٍ عنيفة.
أساليب الحوار في عصر التكنولوجيا:
يمكـن لوسـائل الإعـلام أن تلعـب دوراً بنّـاءً أو هـدّاماً أثنـاء عمليـة الحـوار، فـإذا مـا تـم معرفـة أهـداف الحـوار وذِكْرهـا بطريقـة متوازنة، سـيكون لـدى وسـائل الإعـلام القُـدرة علـى إلهام وتحفيز أفـراد المجتمـع المحلـي للاهتمـام بعملية الحـوار، والبدء فـي إنشـاء الحـوار الخـاص والمناسـب بالنّسـبة لهـم، وفي عصر الإنترنت الذي نعيشه هناك الكثير من المحاولات الجيدة لبناء حوارٍ إلكتروني مبنيٍ على أسسٍ سليمة تعمل على تقريب وجهات النّظر وتبّني ثقافة حوار حيادية، يخرج منها كافة الأطراف بوٍد ومحبّة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر مشروع لمة شباب وهو برنامج حواري شبابي أون لاين، يهدف إلى جمع الشباب السوري من مختلف البلدان للتعلم وتبادل المعرفة ومناقشة مواضيع مختلفة من نواحي علميّة وثقافيّة ومهنيّة وأكاديميّة.
تتلخص أهمية الحوار كوسيطٍ في عملية حلّ النزاع بكونه قادراً على كشف الجوانب المغيّبة عن أطراف الحوار وتوضيح أبعاد القضية المتَباحث حولها، بالإضافة إلى العمل على إيجاد طرق تفاهمٍ بين أطراف الحوار سعياً للوصول إلى نقاط التقاءٍ جامعة، ممّا يسمح للفرد أن يحقق ذاته وينتج المعرفة من خلال اللقاء مع الآخر والتفاعل معه، وبذلك يؤسس للمجتمع الإنساني.