تخيل معي، عالماً تتساوى فيه الفرص ولا تُقاس قيمة الإنسان بجنسه وإنما بقدراته وأحلامه. فكّر في ديمقراطية حقيقية تُسمع فيها أصوات جميع المواطنين، رجالاً ونساءً، شباباً وكباراً، تُبنى القرارات فيها على مشاركة الجميع وليس على صوت الأغلبية.
تعمّق معي أكثر ولنتخيل اقتصاداً مزدهراً، تُستغل فيه مواهب جميع أفراد المجتمع وتُمنح النساء ذات الفرص التي تُمنح للرجال، وتُصبح “رواتب متساوية مقابل عمل متساوٍ” حقيقة، وليس مجرد شعار.
مجتمعات أكثر سلاماً، حيث تُحترم فيها النساء ولا يُمارس عليهن أيّ نوعٍ من أنواع العنف، وتُعزّز ثقافة الاحترام المتبادل بين جميع الأجناس.
ما رأيك بهذه الرؤى؟ إنها يوتوبيا صحيح؟
هذا ببساطة العالم الذي يسعى الإدماج الجندري إلى بنائه، ودعني لا أُخفيك سراً بأن هذا الطريق طويل والعمل لإحلاله شاق، ولا تزال هناك جدران من التمييز والعنف تحول دون تحقيق هذا الحلم. لا تزال هناك أصوات تُسكت وأحلام تُكبت وفرص تُحرم، مما يجعل الإدماج الجندري ليس مجرد قضية، إنما قضية إنسانية ومسؤولية الجميع.
فمع تزايد الدعوة إلى المساواة الاجتماعية وخاصة بعد تحرير سوريا، أصبح فهم الإدماج بين الجنسين أكثر أهمية من أي وقت مضى، واتضح أن تبني الإدماج بين الجنسين يمكن أن يجعل عالمنا أكثر عدالة وإنسانية، ومكاناً يتمتع فيه الجميع بمساحتهم واحترامهم، إذ تتجلى مشكلة عدم المساواة الجندرية في جميع جوانب الحياة، ابتداءاً من فرص التعليم والعمل وصولاً إلى المشاركة السياسية والتمثيل في مواقع صنع القرار، وهذه الاختلالات تؤثر سلباً على جميع أفراد المجتمع وتمنعهم من إخراج إمكاناتهم الكاملة.
ولكن قبل الاسترسال في الحديث عن الإدماج الجندري علينا فهمه، ما هو؟ وما المقصود به؟
الإدماج الجندري
الإدماج الجندري، أو إدماج النوع الاجتماعي، نهج إستراتيجي ثوري يهدف إلى تصميم وتقييم القرارات والمبادرات مع مراعاة احتياجات وخبرات الرجال والنساء على حد سواء واحترام هوية كل شخص وتجاربه الفريدة والاعتراف بها. يشمل هذا النهج التشريعات والسياسات والبرامج في جميع المجالات وعلى مختلف المستويات.
يعمل الإدماج الجندري على وضع النساء والرجال في قلب عملية صنع القرار، بدءاً من التصميم وصولاً إلى التنفيذ والمتابعة والتقييم؛ الهدف تحقيق مساواة حقيقية بين الجنسين، وضمان استفادة كِلا الجنسين من الفرص والخدمات بشكل متساوٍ. ومن ثم، يسعى إلى القضاء على عدم المساواة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
أهمية الإدماج الجندري في المجتمع السوري اليوم
يتجاوز إدماج النوع الاجتماعي في سوريا اليوم كونه مسألة عدالة إلى كونه ضرورة حيوية لتحقيق التنمية المستدامة والازدهار الوطني. فعندما نتحدث عن إدماج النوع الاجتماعي، فإننا نتحدث عن خلق بيئة تتيح للجميع، بغض النظر عن جنسهم، فرصاً متساوية في مختلف المجالات مثل التعليم والعمل والصحة والسياسة. وهذا ليس فقط من أجل تحقيق العدالة، بل لأنه يساهم في بناء مجتمع أكثر إنصافاً واستقراراً.
كما تشير الدراسات إلى أن تمكين النساء والفتيات وزيادة مشاركتهن في سوق العمل يمكن أن يؤدي إلى نمو اقتصادي ملحوظ وقد أدت هذه السياسات في بعض البلدان إلى تحسين كبير في الناتج المحلي الإجمالي، إذ أصبح المجتمع أكثر إنتاجية وإبداعاً بفضل التنوع الذي تجلبه النساء إلى أماكن العمل.
والأمر لا يقتصر على هذا فحسب، يُعزّز أيضاً إدماج النوع الاجتماعي السلام والأمن داخل المجتمع. فالبلدان التي تتمتع بمستويات أعلى من المساواة بين الجنسين غالباً ما تكون أكثر استقراراً وأقل عرضة للعنف الداخلي. كما يساعد إشراك النساء في عمليات اتخاذ القرار، سواء في السياسة أو المجتمع، في بناء سياسات أكثر شمولية وتوازناً، مما يساهم في تقليل الصراعات.
وعلى مستوى أوسع، لا يمكننا تحقيق أهداف التنمية المستدامة التي وضعتها الأمم المتحدة، مثل القضاء على الفقر والجوع وتحسين الصحة والتعليم، من دون إشراك النساء والرجال على حد سواء. فلا يمكن لأي مجتمع أن يحقق التنمية الشاملة إذا كانت نصف طاقته الإنتاجية مهدورة أو غير مستغلة بشكل كامل.
يعتمد تعزيز الابتكار والتنوع بشكل كبير على إدماج النوع الاجتماعي، إذ يؤدي تنوع الخبرات ووجهات النظر إلى حلول إبداعية وفعالة للتحديات التي تواجه المجتمع. ففي بلدنا اليوم والذي يواجه تحديات معقدة على مستوى العالم، فإن إدماج النوع الاجتماعي لم يعد خياراً يمكن تجاهله، بل أصبح ضرورة ملحة لبناء مستقبل أفضل وأكثر عدلاً للجميع.
التحديات التي تواجه النساء في وجه الإدماج الجندري
تواجه النساء والفتيات في العديد من المجتمعات حول العالم مجموعة من التحديات التي تعيق تقدمهن وتحد من فرصهن في الحياة، وتتنوع هذه التحديات، من الوصول المحدود للموارد والخدمات إلى العوائق الاجتماعية والثقافية.
في مجال التعليم
أبرز المجالات التي تعاني فيها النساء والفتيات من ضعف الفرص هو التعليم، بالرغم من قدرة الفتيات على التفوق خلال مراحل التعليم الابتدائي في بعض المجتمعات بما يساوي أو يُضاهي أحياناً الصبيان، إلا أنهن يواجهن صعوبات كبيرة في استكمال تعليمهن الثانوي أو العالي، خاصة في المناطق الريفية. وتشكل العوامل الاجتماعية والاقتصادية سبباً في ترك الفتيات للدراسة مبكراً وحرمانهن من الفرص المستقبلية.
التعزيز الاقتصادية والوصول للخدمات
تُشكل الفرص الاقتصادية المحدودة أحد أكبر العقبات التي تواجه النساء، إذ تُحرم الكثير منهن من الوصول إلى الموارد الأساسية مثل العمل والأرض والمهنة، الأمر الذي يؤثر سلباً على قدرتهن الاقتصادية خاصة في المناطق الريفية.
بالإضافة إلى الصعوبات التي تواجهها النساء عند محاولة الوصول إلى الخدمات الأساسية، بما فيها العدالة، وتزداد هذه المعاناة بالنسبة للنساء ذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن.
العنف القائم على النوع الاجتماعي
يُعد العنف القائم على النوع الاجتماعي أحد أبرز العوائق التي تعترض طريق المساواة بين الجنسين والإدماج الجندري ما بينهما، ويشمل هذا العنف أشكالاً متعددة، منها الجنسي والجسدي واللفظي والعاطفي والاقتصادي، ويُعتبر هذا العنف سبباً ونتيجة للكثير من التحديات الأخرى التي تواجه النساء، بما في ذلك نقص الوصول إلى الموارد والخدمات والمعايير الاجتماعية الضارة.
السياسات والقوانين والمشاركة المحدودة للنساء في صنع القرار
إن ضعف تنفيذ ورصد السياسات والقوانين المتعلقة بالنوع الاجتماعي تشكل عقبة كبرى في تحقيق الإدماج الجندري، فلا تزال توجد في العديد من البلدان قوانين عرفية تمييزية وغياب وجود قوانين تحظر العنف القائم على النوع الاجتماعي، بالإضافة إلى الضعف في التوافق بين القوانين التي تهدف إلى منع الزواج المبكر والقسري.
كما أن ضعف تمثيل النساء في هيئات صنع القرار يحرمهن من القدرة على التأثير في السياسات التي تؤثر على حياتهن، وغياب تمكين المرأة والمشاركة الفعّالة لها يساهم في استمرار هذه الدائرة المغلقة من التمييز.
استراتيجيات تعزيز الإدماج الجندري
إن تعزيز الإدماج الجندري ضرورة مجتمعية ملحة تتطلب نهجاً شاملاً يُهتم ويدرس العديد من الجوانب، ولإحراز تقدم حقيقي يجب التركيز على تمكين الفتيات والنساء في جميع المجالات بدءاً من التعليم الذي يُعد حجر الأساس في بناء مجتمع أكثر إنصافاً خاصةً في المناطق الريفية، من خلال توفير بيئة تعليمية آمنة وداعمة، ودمج مبادئ المساواة في المناهج الدراسية وزيادة الوعي بأهمية التعليم كحق أساسي لجميع الأفراد، كما يجب زيادة الوعي بأهمية التعليم كحق أساسي لجميع الأفراد بغض النظر عن جنسهم وتجنب السلوك النمطي الذي قد يمنع الفتيات من مواصلة دراستهن، والاهتمام بتأمين برامج الفرص الثانية التي تعد لتمكين الفتيات اللواتي واجهن تحديات في مواصلة تعليمهن.
ولتمكين المرأة اقتصادياً، يجب تشجيع الأنشطة والمشاريع المُولدة للدخل، وتوفير قروض ميسرة للمؤسسات النسائية، كما أن دمج الأنشطة الثقافية والرياضية مهم جداً لتعزيز التماسك الاجتماعي بين النساء ودعم التغيير الثقافي.
وتشكل المساواة في مكان العمل من أهم الأهداف الرئيسية، لذا يجب فرض حصص نسائية في المناصب القيادية وتطبيق الكوتا النسائية، والتأكيد على تقديم المساعدة القانونية والوصول للعدالة للنساء. ويجب تلبية احتياجات النساء ذوات الاحتياجات الخاصة وكبار السن وذوي الإعاقة مع مراعاة احتياجاتهم الخاصة بما يتماشى مع مبادئ المساواة.
كما أن مواجهة الممارسات الضارة اجتماعياً من خلال حملات التوعية والتشريع ضدها والتعاون مع القادة الدينيين والمجتمعيين لتغيير المعايير الاجتماعية الضارة أمراً لابد منه لتحقيق الإدماج الجندري.
يجب توعية الرجال والنساء والأولاد والفتيات بأهمية المساواة وحقوق الإنسان وأدوارهم ومسؤولياتهم في المجتمع، بالإضافة إلى تعزيز الشراكات مع منظمات المجتمع المدني والدولية لدعم المدافعين عن حقوق الإنسان، والاعتماد على نماذج محلية يحتذى بها في إطلاق حوارات حول المساواة.
في الختام، إن الإدماج الجندري ليس مجرد مبدأ نبيل بل ضرورة حيوية لبناء مجتمعات أكثر عدالة واستقراراً وازدهاراً، يمكننا من خلال العمل على تمكين النساء والفتيات في جميع المجالات ونبذ التمييز والعنف القائم على النوع الاجتماعي إنشاء عالم يتمتع فيه جميع الأفراد بفرص متساوية للنجاح والازدهار، هذا التغيير الجذري يتطلب جهوداً جماعية من الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص والأفراد.كم من الزمن سيستغرق تحقيق الإدماج الجندري الكامل؟