الساعة تجاوزت الواحدة ليلاً، ليلة تعم بالصمت القاتل والانتظار، ترقب لمصير غير محتوم، حتى السماء أطفئت نجومها وقررت التزام الصمت وكأنها تدرك القادم.
وفجأة حانت الساعة وصدح صوت بعيد مبهم لا يمكن تحديده تحول إلى فوضى عارمة اخترقت الظلام والهدوء وتغير بعدها كل شي… لم يكن هناك فرصة للتفكير أو الهرب، اللافعل كان الحل الوحيد!
خيم الصمت في غضون دقائق وحدها الظلال كانت شهود الحدث، كان الصمت أثقل من الصوت الذي مضى.
في حضرة الفناء لا مكان لتاريخ أو اسم، مجرد رقم لمصير العديد ممن كانوا قبل لحظات ليسوا مجرد ذكرى ربما لن يذكرها أحد… تروى قصتها بألم تطوى صفحته بلا رجعة.
ندوب تاريخية: الإبادة الجماعية عبر التاريخ
الإبادة الجماعية هي واحدة من أبشع الجرائم التي عرفتها البشرية وعلى الرغم من فظاعتها إلا أنها ليست بجديدة في تاريخنا، فالإبادة الجماعية لم تظهر في العصر الحديث مع المصطلحات المعقدة والقوانين الدولية، والحقيقة المؤلمة أن البشرية كانت تمارس هذا النوع من الوحشية منذ آلاف السنين.
ففي رحلة عبر العصور، تبدأ من العصور القديمة والتي كانت الحرب فيها وسيلة للبقاء كانت الحروب تتجاوز مجرد الاستيلاء على الموارد وتتحول أحياناً إلى إبادة شاملة لشعوب بأكملها، كما كانت الإمبراطوريات الكبرى مثل روما والإمبراطورية المغولية كانت تشن حروبا عنيفة، ولا تكتفي بالهزيمة العسكرية للعدو بل تمحو وجودها بالكامل.
وفي الشرق، جاء جنكيز خان ليعطي الإبادة الجماعية شكلاً آخر، حيث اتسمت حملاته العسكرية بتدمير كل من يقف في طريقه وقتل ملايين البشر تحت سيفه، وكانت فلسفته البسيطة: “إذا قاومتم، ستُبادون.”
مع توسع الإمبراطوريات الأوروبية في العصور الوسطى وبداية الحقبة الاستعمارية، شهدت الأرض جريمة إبادة جديدة عندما وصل الأوروبيون إلى الأمريكتين، فلم يأتي الأوروبيون فقط بالتجارة والاكتشاف، بل جلبوا معهم الموت والدمار للقبائل الأصلية في الأمريكتين ولم يكن للشعوب الأصلية مكان في خطط المستعمرين، فإما أن تندمج أو تُمحى وقُتل الملايين بسبب الحروب، الأوبئة، والتهجير القسري.
أما في أفريقيا فقد ارتكبت القوى الاستعمارية الأوروبية مجازر ضد الشعوب الأصلية التي قاومت الغزو الأوروبي وأحد أكثر الأمثلة بشاعة هو ما حدث في ناميبيا في بداية القرن العشرين، حيث نفذت القوات الألمانية إبادة جماعية ضد شعبي الهيريرو و الناما، مما أدى إلى مقتل ما يقرب من 80٪ من سكانها.
بينما كان القرن العشرين يعد بفجر جديد للإنسانية، جلب معه فصل من فصول الإبادة الجماعية ففي قلب أوروبا وفي عصر التكنولوجيا والتقدم، قامت ألمانيا النازية بتطبيق إبادة ممنهجة ضد اليهود، الغجر، والمعاقين، في محاولة لتطهير “العرق الآري”. قُتل حوالي 6 ملايين يهودي خلال الهولوكوست، في مشهد يظل محفور في الذاكرة الجماعية.
هذا الحدث لم يكن مجرد جريمة، بل كان نقطة تحول في مسار القانون الدولي ففي نهاية الحرب العالمية الثانية، أدرك العالم أنه لا يمكن أن تستمر هذه الجرائم دون عقاب، وتم تأسيس اتفاقية “منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية” في 1948، هذه الاتفاقية التي كانت أول خطوة نحو محاولة منع تكرار الفظائع.
من المعاناة إلى العدالة الدولية: اتفاقية الإبادة الجماعية
في خضم أهوال الحرب العالمية الثانية، حيث كانت أوروبا تغرق في دوامة من الدمار والإبادة الجماعية، ظهر رجل واحد بين ملايين الشهود على هذه الفظائع، كان هذا الرجل هو رافائيل ليمكين، الفقيه القانوني البولندي الذي عاش التجربة بكل تفاصيلها المؤلمة، فلم تكن الأحداث التي شهدها مجرد وقائع حرب أخرى، بل كانت شيئاً غير مسبوق في حجمها ووحشيتها.
بدأ ليمكين في التفكير بعمق في الجرائم التي ترتكب، وخاصة تلك الموجهة ضد الأقليات العرقية والدينية وأدرك أن الوصف المتاح في ذلك الوقت لتلك الفظائع لم يكن كافياً، في الجرائم التي يرتكبها النازيون كانت تندرج في إطار اضطهاد منظم يهدف إلى القضاء على مجموعات بشرية بأكملها.
ومن هنا ولدت فكرة “الإبادة الجماعية ودمج ليمكين كلمتين من لغتين مختلفتين، “genos” من اليونانية التي تعني “الجنس” أو “الأمة”، و”cide” من اللاتينية التي تعني “القتل” ليصنع مصطلحاً جديداً يعبر بدقة عن هذه الجريمة الفريدة.
فالإبادة الجماعية ليست كأي جريمة أخرى، بل هي جريمة تهدف إلى القضاء التام على جماعة سكانية محددة، سواء عن طريق قتلهم جميعاً أو تدمير جزء كبير منهم، وما يميز هذه الجريمة هو النية الواضحة والمدروسة للقضاء على تلك الجماعة بناء على هويتها، سواء كانت عرقية أو دينية أو قومية، هذه النية هي التي تجعل من الإبادة الجماعية جريمة فريدة من نوعها، مختلفة عن أي جرائم حرب أو ضد الإنسانية.
رغم أن العالم بعد انتهاء الحرب كان في حالة صدمة، إلا أن المجتمع الدولي لم يعترف مباشرة بمصطلح “الإبادة الجماعية”، ففي محاكمات نورمبرغ الشهيرة، تم استخدام تعبير “الجرائم ضد الإنسانية” لوصف الجرائم التي ارتكبها النازيون ولم يُذكر مصطلح “الإبادة الجماعية” بشكل صريح، على الرغم من أن ليمكين كان يسعى بكل جهد إلى إدخال هذا المصطلح في الخطاب القانوني الدولي.
من الفكرة إلى القانون: تحول الإبادة الجماعية إلى جريمة دولية
في عام 1946، وبعد انتهاء الحرب، بدأت ملامح الاعتراف بمفهوم الإبادة الجماعية تتشكل بشكل أكثر جدية وقامت دولتان صغيرتان هما بنما والهند بتقديم مشروع قرار إلى الجمعية العامة الأمم المتحدة يدعو إلى الاعتراف بالإبادة الجماعية كجريمة دولية ولم يكن هذا القرار مجرد إدانة رمزية، بل كان دعوة للعالم أجمع إلى ضرورة منع ومعاقبة هذا النوع من الجرائم سواء في أوقات السلم أو الحرب.
لكن هذه الخطوة لم تكن بسيطة، ورغم أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرت بياناً يدين الإبادة الجماعية ويعترف بها كجريمة دولية، إلا أن النقاش كان لا يزال محتدماً حول جوانب متعددة، ومن بين تلك الجوانب كان هناك جدل حول ما إذا كانت الجريمة يمكن أن تُرتكب في أوقات السلم، وكيف يمكن تطبيق الولاية القضائية العالمية لمحاكمة مرتكبيها.
رحلة طويلة نحو العدالة: ولادة اتفاقية الإبادة الجماعية
إن تحويل مفهوم الإبادة الجماعية من فكرة إلى قانون دولي تطلب سنوات من الجهد والمفاوضات المعقدة حيث بدأت الأمم المتحدة في إعداد مسودة أولية للاتفاقية بمساعدة مجموعة من الخبراء القانونيين، وكانت الفكرة أن تكون هذه المسودة بمثابة إطار عمل يمكن من خلاله بناء تصور أعمق لهذه الجريمة الفريدة.
لاحقاً، تم تسليم النص إلى لجنة متخصصة قامت بتطويره إلى وثيقة قانونية متكاملة، قبل أن يصل الأمر إلى اللجنة السادسة للجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1948. هنا، تم الانتهاء من الصيغة النهائية التي تمثل الآن اتفاقية دولية لمنع ومعاقبة الإبادة الجماعية.
لكن رغم هذه الإنجازات، كان هناك تحديات كبرى فقد تم التخلي عن فكرة الولاية القضائية العالمية، التي كانت ستمكن أي دولة من محاكمة مرتكبي الإبادة الجماعية بغض النظر عن مكان وقوع الجريمة وبدلاً من ذلك نصت الاتفاقية على محاكمة مرتكبي الجريمة في المحاكم الوطنية للدولة التي وقعت فيها الجرائم أو في محكمة جنائية دولية.
وفي ديسمبر من عام 1948، صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية ودخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في يناير 1951 التي كانت لحظة مفصلية في تاريخ العدالة الدولية، حيث أصبح من الممكن محاسبة مرتكبي الإبادة الجماعية قانونياً، وأصبح للعالم إطار قانوني يعترف بهذه الجريمة ويعاقب مرتكبيها.
في خضم الأزمات: تطهير عرقي أم إبادة جماعية
تتصدر مصطلحات مثل “الإبادة الجماعية” و”التطهير العرقي” العناوين و تحمل في طياتها معان عميقة ومرعبة ولكن، ما الفرق بينهما؟ ولماذا يستحق كل منهما أن نمعن النظر فيه بعمق؟
الإبادة الجماعية:
تخيل لحظة مشؤومة، حيث تكون النية الوحيدة هي القضاء على جماعة بأكملها… هذا هو جوهر الإبادة الجماعية، الجريمة التي تعصف بالإنسانية التي تم تعريفها على أنها الأفعال التي تُرتكب بقصد القضاء على جماعة قومية أو عرقية أو دينية، سواء بشكل كلي أو جزئي.
ومن خلال نظرة تاريخية لأوائل القرن العشرين، كان العالم يشهد على واحدة من أفظع المجازر والتي هي مذبحة الأرمن هذه المذبحة التي سجلتها العديد من الكتب والقصص والروايات ورغم كل ذلك لم تكن هناك كلمات كافية لوصف حجم الفظائع التي تم ارتكابها من قتل الجماعي إلى تعذيب إلى ملاحقة للضحايا في كل زاوية مع الإجبار على مواجهة واقع مأساوي يزداد يوماً بعد يوم.
التطهير العرقي:
على الجانب الآخر، نجد مصطلح التطهير العرقي، الذي يعني إزالة جماعة عرقية أو دينية من منطقة معينة باستخدام القوة أو الإكراه، فهو ليس مجرد تهجير عادي بل هو عملية قاسية تهدف إلى إخلاء منطقة من وجود تلك الجماعة، رغم أن ذلك لا يعني بالضرورة القضاء عليهم.
ففي الأحداث المأساوية في البلقان خلال التسعينيات كانت الأسر تُحرم من منازلها، ومجتمعات بأكملها تُدفع خارج حدودها، مع العنف الذي كان حاضراً في كل وقت، وكان الهدف إخلاء الأرض من الجماعة المستهدفة، فكانت أساليب التطهير العرقي تتضمن التهجير القسري، تدمير الممتلكات، وأحيانا أعمال قتل تهدف إلى ترهيب الناس لدفعهم للرحيل.
حكايات بين الحياة والموت: الأفعال التي تشكل جريمة الإبادة الجماعية
هناك مجموعة من الأفعال التي تم تصنيفها جرائم إبادة جماعية جاءت واضحة ومحددة ضمن نصوص الاتفاقية هي:
- القتل المباشر: مثل المجازر التي وقعت ضد الأرمن، حيث تم قتل أفراد الجماعة بدافع هويتهم.
- إحداث أضرار جسدية أو نفسية: كما فعل الخمير الحمر في كمبوديا، حيث تعرض أفراد من الجماعات المختلفة لأبشع أنواع التعذيب.
- فرض ظروف معيشية غير إنسانية: تخيل الظروف المروعة في معسكرات الاعتقال النازية، حيث تم إجبار الضحايا على العيش في ظروف قاسية تؤدي إلى موتهم.
- منع الولادات: مثل التعقيم القسري أو سياسات الفصل بين الجنسين التي تم تطبيقها ضد بعض الأقليات.
- نقل الأطفال قسرياً: كما حصل مع أطفال السكان الأصليين في أستراليا وكندا، حيث تم فصلهم عن عائلاتهم ودمجهم في مجتمعات أخرى.
ومن المهم الإشارة أن الإبادة الجماعية الثقافية، التي تشير إلى الأفعال التي ترتكب لمنع الأفراد من ممارسة ثقافتهم أو لغاتهم، لا تدخل ضمن تعريف الإبادة الجماعية ضمن أحكام هذه الإتفاقية، وكذلك فإن جريمة الإبادة البيئية، التي تهدف إلى تدمير النظام البيئي، لا تعتبر إبادة جماعية أيضاً.
من القصد إلى الجريمة: أركان جريمة الإبادة الجماعية
يعتمد القانون الدولي على معايير دقيقة تستند إلى اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها التي وُقعت في عام 1948، بالإضافة إلى تعريفات قدمتها المحاكم الدولية مثل المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، فضلاً عن محكمة رواندا و محكمة يوغوسلافيا السابقة.
أولا ً: القصد: النية المتعمدة
لنبدأ من نقطة أساسية وهي القصد، هذه الكلمة تحمل أهمية كبيرة، فالإبادة الجماعية ليست مجرد أحداث تحدث بالصدفة، بل تحتاج إلى وجود نية متعمدة للقضاء على جماعة معينة، فمثلاً إذا قررت مجموعة ما استهداف جماعة على أساس هويتها العرقية أو الدينية أو القومية، هنا نكون أمام عمل يتجاوز العنف العادي.
حددت الاتفاقية الأفعال التي تستوجب العقاب وتشمل هذه الأفعال الإبادة الجماعية نفسها، والتآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية، والتحريض المباشر والعلني على ارتكابها، فضلاً عن محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية والاشتراك في الإبادة.
كما تنص المادة 25 (3)(ب) من نظام روما الأساسي على أن كل من يأمر بارتكاب جريمة إبادة جماعية، أو يغري بها، أو يحث عليها، يُعتبر مذنباً، سواء تم ارتكاب الجريمة فعلياً أو تم الشروع فيها، ومن المهم أيضاً أن نلاحظ أن المادة 25 (3)(ج) تشير إلى أن من يساعد أو يحرض شخصا آخر على ارتكاب هذه الجريمة يُعتبر أيضاً مذنباً.
ثانياً: استهداف جماعة محددة
أما الركيزة الثانية فهي استهداف جماعة محددة، فيبغي أن يتوجه الفعل ضد جماعة معينة بناء على معايير مثل العرق أو الجنسية أو الدين أو الإثنية، ففي في رواندا استهدفت مجموعة التوتسي وكان هناك استهداف واضح للجماعة، وكان الهدف هو القضاء على أفرادها وهنا تجسدت النية في القضاء على هذه المجموعة.
صراع القانون والواقع: نقاط قوة وضعف الاتفاقية
تكمن نقاط القوة في أصداء الاتفاقية القانونية والسياسية بشكل أساسي، فمنذ صدور الاتفاقية أصبحت جريمة الإبادة الجماعية تدرس وتناقش ولم تعد المصطلحات الأخرى مثل كلمة “تدمير” أو مصطلحات مشابهة منفصلة عنها بشكل مطلق، كما أدت الاتفاقية إلى الاعتراف الرسمي بالجريمة وشكلت وسيلة ضغط على الحكومات والسلطات يقيد من حصول جرائم مماثلة، وتحقق العدالة لمرتكبيها.
أما بالنسبة لنقاط الضعف فقد أدت الاتفاقية إلى تضيق فهم المصطلحات وتحديد قائمة المجموعات المحمية القومية والاثنية والعرقية والدينية فهي تغفل المجموعات السياسية والطبقات الاجتماعية، كما كان من الصعب تحديد إجراءات تنفيذ الاتفاقية بالإضافة إلى خوف الدول من اتخاذ إجراءات ضد دول أخرى لاعتبارات سياسية واقتصادية.
كما تعتمد الاتفاقية على تعاون الدول وبالتالي يصبح من الصعب محاسبة مرتكبي الجرائم من الدول الكبرى خوفاً من إجراءات قد تتخذها هذه الدول، بالإضافة إلى أن التجارب أثبتت فشل المجتمع الدولي في التدخل باكراً في حالات الإبادة الجماعية.
ظلامية مروعة في التاريخ البشري: جرائم الإبادة الجماعية في العصر الحديث
في عالمنا المعاصر، تبرز بعض الفصول الأكثر ظلاماً في تاريخ البشرية، تلك الفصول التي تتحدث عن الإبادة الجماعية. فقد شهدت الأرض، على مدار العقود الأخيرة، أحداثاً مأساوية أدت إلى فقدان ملايين الأرواح.
بداية من قلب رواندا في عام 1994 تخيل مشهداً مروعاً، حيث أُزهقت الأرواح في مئة يوم فقط، قُتل خلالها ما بين 800,000 إلى مليون شخص من عرقية التوتسي، كانت الأيدي التي أطلقت النار وارتكبت الفظائع هي نفسها التي صرخت بدعوات الكراهية والتفرقة، فالإبادة الجماعية في رواندا لم تكن مجرد صراع داخلي، بل كانت تعبيراً عن نية واضحة للتخلص من مجموعة عرقية معينة، فاستُخدمت وسائل وحشية، من القتل الجماعي إلى الاغتصاب الممنهج، ليتم سحق الإنسانية بشكل ممنهج.
لكن القصة لا تنتهي عند هذا الحد، بل تمتد إلى دارفور، حيث بدأت مأساة جديدة في عام 2003 في قرى تعرضت لهجمات شرسة من قبل الحكومة السودانية وميليشياتها، المعروفة باسم “الجنجويد”. شهد هذا الإقليم عمليات قتل ممنهجة ضد السكان ذوي الأصول الأفريقية من قبائل الفور والزغاوة والمساليت، حيث تم تدمير القرى وقتل المدنيين بصورة متعمدة، مما أدى إلى تشريد ملايين السكان.
ومع تقدم الزمن، ظهر ظلام آخر في عام 2014 عندما تعرضت الأقلية الإيزيدية في العراق لجرائم وحشية من قبل تنظيمات إرهابية لآلاف من الرجال الإيزيديين الذين قُتلوا، والنساء والأطفال الذين خُطفوا ليصبحوا ضحايا للعبودية والبيع وكانت هذه الهجمات جزءاً من خطة مبيتة تهدف إلى القضاء على هذه الأقلية، مما دفع الأمم المتحدة لتصنيفها إبادة جماعية تستهدف الإيزيديين.
وفي عام 2017، كُتب فصل جديد من الإبادة الجماعية في ميانمار، حيث عانت أقلية الروهينغيا المسلمة من هجمات مروعة، وواجهوا القتل والتشريد على أيدي القوات الميانمارية، وصف المجتمع الدولي هذه الأفعال بأنها إبادة جماعية، إذ تم استهداف الروهينغيا بناءاً على انتمائهم الديني والعرقي.
لكن القصة لا تنتهي هنا، ففي عام 2017 بدأت تقارير في الصين تشير إلى حملة قمعية مستمرة ضد أقلية الأويغور المسلمة وتتجاوز الأمور المأساوية حد التصور، حيث يُحتجز أكثر من مليون شخص في معسكرات اعتقال، وتُفرض قيود صارمة على ممارسة دينهم وثقافتهم واستخدام الإجهاض والتعقيم القسري كوسيلة لتقليل أعداد الأويغور والقضاء على الهوية الأويغورية.
ماذا عن الحرب في غزة وهل يعتبر ما يمارس بحق أهالي غزة هو إبادة جماعية؟
لا بد من أن نقف ونحلل هذا السياق للتفكير ملياً بإجابة هذا السؤال واستعراض الحقائق من منظور قانوني والبدء بتحليل الواقع الراهن عبر عدسة نشطاء حقوقيين، ومقارنة الأحداث بالنصوص القانونية وبالأركان الجرمية لجريمة الإبادة الجماعية وفقا لأحكام اتفاقية منع الإبادة الجماعية، التي تمثل قوة قانونية أو عرفية في المجتمع الدولي.
بداية تعرّف المادة الثانية من هذه الاتفاقية الإبادة الجماعية بأنها “أي فعل يُرتكب بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية”. وتشمل الأفعال التي تُعتبر إبادة جماعية:
- قتل أعضاء المجموعة.
- إلحاق أذى جسدي أو نفسي خطير بأفراد المجموعة.
- إخضاع المجموعة لظروف معيشية تهدف إلى تدميرها كليًا أو جزئيًا.
- فرض تدابير تهدف إلى منع الولادات داخل المجموعة.
- نقل أطفال المجموعة قسراً إلى مجموعة أخرى.
الأسئلة الحاسمة
للإجابة عن سؤالنا حول ما إذا كانت الحرب في غزة تندرج تحت جريمة الإبادة الجماعية، يجب أن ننظر في عدد من النقاط الأساسية:
- هل يتوفر القصد والنية بالقضاء على مجموعة بشكل كلي أو جزئي؟
وفقًا لتقارير متعددة حتى أكتوبر 2024، تجاوز عدد القتلى في غزة 42,000 شخص نتيجة الحرب المستمرة، حيث تم تسجيل أكثر من 41,206 قتيل منذ بدء التصعيد في عام 2023. إضافة إلى أكثر من 97,000 مصاب. وبالنظر إلى أن 1.7 مليون شخص من أصل 2.3 مليون نسمة في غزة قد نزحوا داخلياً، فإن ذلك يعني أن ما يقرب من 75% من السكان يعيشون في ظروف إنسانية صعبة، حيث تفتقر الملاجئ المكتظة إلى الاحتياجات الأساسية مثل الماء والغذاء، مما يؤدي إلى انتشار الأمراض، وهكذا يمكن القول إن هناك تدميراً منهجياً على مستويات متعددة. - هل تتم الأفعال المرتكبة على مجموعة معينة؟
الأفعال المرتكبة في غزة تقتل المدنيين، وتلحق الأذى الجسدي والنفسي بهم كما تفرض ظروف معيشية غير قابلة للاحتمال، وهو ما يشير بوضوح إلى استهداف جماعة معينة. - هل يتم استهداف مجموعة قومية أو دينية معينة؟
الفلسطينيون في غزة يُعتبرون مجموعة قومية، وتمتلك هويتهم ملامح مميزة، وبالتالي إذا كانت الهجمات تستهدف هذه المجموعة بقصد القضاء عليها كلياً أو جزئياً، فهذا يعد أساساً للقول بأنها إبادة جماعية. - ما هو موقف المجتمع الدولي والمحاكم الدولية؟
حتى الآن، لا توجد جهة قضائية دولية، مثل المحكمة الجنائية الدولية، قد أعلنت رسمياً أن الحرب في غزة ترتقي إلى مستوى الإبادة الجماعية، فغالباً ما يتم استخدام مصطلحات مثل “جرائم حرب” أو “جرائم ضد الإنسانية” لوصف الفظائع المرتكبة، ومع ذلك قامت دولة جنوب أفريقيا برفع دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، متهمة إياها بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، واعتمدت القضية على ادعائها بانتهاك اتفاقية منع الإبادة الجماعية من خلال استخدام القوة المفرطة والإضرار المتعمد بحياة الفلسطينيين، وفرض ظروف معيشية تهدد وجودهم في غزة.
في يناير 2024، أصدرت محكمة العدل الدولية أوامر مؤقتة تطالب إسرائيل باتخاذ تدابير لمنع وقوع جرائم إبادة جماعية، مثل وقف قتل المدنيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية.
مأساة الإنسانية المستمرة
وبالنهاية وبعد استعراض كل تلك الفصول المظلمة من تاريخ البشرية، لا بد من الوقوف عند هذا التاريخ الطويل المؤلم المثقل بالأوجاع لهذه الجريمة التي تتكرر عبر الزمن والتي رغم قدمها لم تلق اعترافاً قانونياً إلا في القرن العشرين، ومنذ ذلك الحين شرعت القوانين والآليات الدولية بالعمل على وضع إجراءات حماية، ورغم كل هذه الجهود لا تزال تشكل تحدياً مستعصياً، فهي ليست مجرد جريمة كباقي الجرائم، جريمة لا تتوقف لا في زمن حرب ولا في زمن السلم، هي مخطط يرافقه خطوات موضوعة بدقة تهدف إلى اقتلاع جذور جماعات البشرية من جذورها وإنهاء وجودها، في مشهد مليء بالقسوة والعلنية مع صرخات الضحايا التي تملأ الأفق… ولا تزال أصوات الإنسانية وكعادتها الأزلية لا تصل إلا بعد فوات الآوان متثاقلتاً خلف ركام الدمار والخراب دون خطوات جدية لإيقاف هذا الفناء الجماعي الذي يئن تحت وطأة الموت ولا مجيب لندائه.