إن امتلاك الإرادة كاملة والرغبة كاملة في اختيار الإنسان ما يفعله وما يكونه وما يصنعه وما يُظهره من سلوك في المجتمع دون حكم أو منع أو تأطير على أساس جندري هي ما تعنيه العدالة الجندرية، وكذلك عدل وحماية للفرد من الدور الاجتماعي المفروض عليه على أساس هويته الجندرية.
وكصورة تتجلى فيها الحاجة للوصول وتحقيق عدالة جندرية في العالم هو ما تواجهه النساء والفتيات في جميع أنحاء العالم من العديد من التحديات في إبراز دورهن وتحقيق فاعليتهن المجتمعية وفي سعيهن للوصول إلى العدالة وتفعيل دورهن في المجتمع والحصول على حقوقهن الأساسية. حيص تشمل بعض التحديات، والأكثر شيوعاً منها هي ما سنأتي على ذكره في هذا المقال.
التمييز القانوني يحد من العدالة الجندرية
لا تزال العديد من القوانين والسياسات تلعب دوراً رئيسياً في تقويض النساء ودورهن وقدراتهن والحصول على أبسط حقوقهن بل وتبني هذه القوانين صورة تمييز وعنصرية ضد النساء والفتيات، مما يقيد فرصهن في التعليم والتوظيف والرعاية الصحية. على سبيل المثال، لا يسمح للنساء في بعض البلدان بامتلاك الممتلكات أو الحصول على القروض أو إبرام العقود والمشاركة في الحياة العامة دون موافقة أزواجهن.
أمام هذا التحدي الكبير أقرت الأمم المتحدة في اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة في المادة الأولى الفقرة الثالثة:
“فرض حماية قانونية لحقوق المرأة على قدم المساواة مع الرجل، وضمان الحماية الفعالة للمرأة، عن طريق المحاكم ذات الاختصاص والمؤسسات العامة الأخرى في البلد، من أي عمل تمييزي”.
العنف ضد المرأة أساس في اللاعدالة الجندرية
يعدّ العنف ضد المرأة مشكلة عالمية تُعيق قدرة النساء والفتيات على تحقيق كامل إمكاناتهن وهو ما يصب في إعاقة الوصول للعدالة الجندرية كذلك. حيث تشمل أشكال العنف ضد المرأة، العنف الجسدي والجنسي والذي يظهر في أشكال مختلفة منها الزواج المبكر والإجبار على الزواج وتشويه الأعضاء التناسلية للإناث (الختان). والعنف النفسي واللفظي، ويظهر هذا في التقليل من قيمتهن وشتمهن وتهديدهن. إضافةً إلى العنف السياسي والاقتصادي والذي يظهر في منعهن من العمل والاستقلال المالي أو السيطرة على ممتلكاتهم وغيره. وكذلك العنف الإلكتروني ويتجلى في التنمر الالكتروني ونشر رسائل جنسية وغيره.
ومما يساهم في تفاقم العنف وأثر العنف عليهن هو خوف العديد من النساء من الإبلاغ عن العنف الذي يتعرضن له أو الذي شهدنه بسبب الخوف من الانتقام أو الرفض من قبل مجتمعاتهن.
ويظهر العنف ضد المرأة في صور وأماكن مختلفة كالعنف المنزلي والتمييز والاضطهاد في مكان العمل ويكون هذا العنف موجهاً للنساء كافة على اختلاف أدوارهن الاجتماعية كالأم والزوجة والابنة بأعمار مختلفة وتحميلهن مسؤوليات ارتبطت عبر الزمن بهويتهن الجندرية. الأمر الذي يجعل من الصعب التفريق بين الهوية الجندرية للإنسان وبين العمل الذي يقوم به أيا كان هذا العمل دون أن يكون منسوباً وملاصقاً لفرد ما في المجتمع.
يعد العنف الموجه ضد المرأة وأبسط حقوقها من أكثر عوامل عدم تحقيق العدالة الجندرية لكون:
“نتائج وأبعاد هذا العنف وخيمة ويمتد أثرها لعدة أجيال؛ وذلك لأن الأطفال يتعلمون من المحيط الذي حولهم وخاصةً الأم فهي المعلم الأول لأطفالها وهي القدوة، فالمرأة المعنفة المستضعفة المستسلِمة ستربي أطفالاً مستضعفين مستسلمين غير ناجحين في حياتهم الشخصية والعملية. أما المرأة المستقلة القوية ستربي أطفالاً أقوياء الشخصية ومستقلين وبالتالي ناجحين في حياتهم الشخصية والعملية.”
الوصول المحدود إلى العدالة ونقص البيانات المتاحة
غالباً ما تواجه النساء والفتيات صعوبة في الوصول إلى العدالة لأسباب شتى. مثلاً، عدم السماح لهن بالتعلم أو الفقر والتمييز ونقص الوعي بحقوقهن. قد لا يكون لدى النساء والفتيات المضطهدات المال لدفع تكاليف المحامين أو الرسوم القانونية، أو قد يخفن من الذهاب إلى المحكمة خوفاً من التعرض للترهيب أو الانتقام فيضيع حقهن ويختفي صوتهن المنادي بحقوقهن. قد لا تكون أنظمة العدالة متاحة أو ملائمة للنساء، خاصة في المناطق الريفية أو المجتمعات المهمشة. هذا الوصول المحدود إلى أدوات تحقيق العدالة يميل بالأفراد إلى بقائهم ضمن دائرة تطبيق الأعراف والتقاليد فتأخذ شكل ممارسات ضارة ومجحفة بحق الأفراد الأضعف في المجتمع وهم النساء والفتيات والأطفال.
حيث تستمر العديد من الأعراف والممارسات الضارة، مثل الزواج المبكر، تزويج المغتصب لضحيته، وتشويه الأعضاء التناسلية للإناث (الختان)، في إعاقة تقدم النساء والفتيات وفي تعرضهن للعنف أكثر وممارسة التمييز ضدهن أكثر. إضافة إلى إكراه الفتيات على ترك التعليم والزواج في سن مبكرة وتغييبهن عن دورهن في المجتمع، مما يقيد فرصهن في التعليم والتوظيف ويعزز من تأطير دورهن وابتعادهن عن معرفة حقوقهن. إضافة إلى قلة فرص الطبابة والعلاج إلى قلة جانب التعليم.
وفي جانب آخر، غالبًا ما تفتقر الحكومات والمنظمات إلى البيانات المتعلقة بالعنف ضد المرأة والتمييز ضدها وإلى سجلات وتوثيقات بحالات العنف والاضطهاد الممارس ضدهن. مما يجعل من الصعب وضع وتنفيذ سياسات وبرامج فعالة لمعالجة هذه المشكلات. إضافة إلى ضعف التنسيق بين الجهات الفاعلة فغالبًا ما يكون هناك ضعف في التنسيق بين الجهات الفاعلة المختلفة التي تعمل على قضايا العدالة الجندرية، مما يؤدي إلى تكرار الجهود وإهدار الموارد.
“وفي سبيل هذا الأمر أقرّت الدول الأعضاء في جمعية الصحة العالمية في أيار/ مايو 2016 خطة عمل عالمية بشأن تعزيز دور النظم الصحية في التصدي للعنف بين الأفراد، وخصوصاً ضد النساء والفتيات وضد الأطفال تتعاون من خلالها على القيام بما يلي:
- إنشاء قاعدة بيانات عن حجم العنف ضد المرأة وطبيعته في أماكن مختلفة، ودعم الجهود التي تبذلها البلدان من أجل توثيق ممارسات هذا العنف وتقدير معدلاته وعواقبه، بوسائل منها تحسين أساليب تقدير العنف ضد المرأة في سياق رصد بلوغ أهداف التنمية المستدامة. وهذا الأمر ضروري لفهم المشكلة من حيث حجمها وطبيعتها على الصعيد العالمي والشروع في اتخاذ إجراءات بشأنها على المستويين القُطري والعالمي.
- تعزيز البحوث والقدرات اللازمة لتقييم التدخلات الرامية إلى منع العنف ضد المرأة والتصدي له.
- إجراء بحوث عن التدخلات من أجل اختبار وتحديد التدخلات الفعالة التي ينفذها قطاع الصحة لمعالجة مشكلة العنف ضد المرأة.”
هذه ليست سوى بعض من التحديات العديدة التي تواجه النساء والفتيات في سعيهن للوصول إلى العدالة المُستحقة لهن. من المهم معالجة هذه التحديات من خلال نهج شامل يتناول الجذور الأساسية لعدم المساواة بين الجنسين والتمييز على أساس الأدوار الاجتماعية والذي بدوره سيؤدي إلى تحقيق العدالة الجندرية في المجتمع.
مقترحات للوصول إلى العدالة الجندرية
إن تحقيق دور فاعل للنساء كافة في المجتمع بصورة عادلة يعكس تحقيق أدوار فاعلة لباقي أفراد المجتمع. إن النساء اللاتي يملكن أصواتهن وحقوقهن وحرياتهن يقوين روابط المجتمع الأسرية والتربوية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية كذلك من خلال الأدوار المختلفة التي يلعبنها في المجتمع. إن حصول المرأة العاملة وغير العاملة والزوجة والأم والابنة على معاملة كريمة عادلة يؤدي إلى العدالة الجندرية للإنسان ككل ضمن المجتمع.
إن البحث والتمعن في معوقات وتحديات الوصول إلى العدالة الجندرية في المجتمع يتبعه بحث وعمل فيما يمكن عمله وإنجازه للقضاء على تلك المعوقات بالتوازي مع تعزيز وبناء حالة من العدالة الجندرية والاجتماعية للأفراد في المجتمع.
مما يمكن فعله لتعزيز العدالة الجندرية يمكن تقديم مقترحات عدة منها:
- سنّ القوانين والسياسات التي تُعزّز المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة.
- معالجة العنف ضد المرأة من خلال حملات التوعية وبرامج الوقاية ودعم الناجيات.
- ضمان حصول النساء والفتيات على فرص متساوية في التعليم والتوظيف والرعاية الصحية.
- تعزيز مشاركة المرأة في صنع القرار على جميع المستويات.
- جمع البيانات المتعلقة بالعنف ضد المرأة والتمييز ضدها.
- تحسين التنسيق بين الجهات الفاعلة المختلفة التي تعمل على قضايا العدالة الجندرية.
- إضافة إلى ما ذُكر، يمكن التأكيد على بعض مما أدرجه التقرير البحثي حول تعزيز حقوق الضحايا وإعادة بناء مجتمعات عادلة الذي نشره المركز الدولي للعدالة الانتقالية.
استراتيجيات محلية لتحقيق جبر الضرر في إطار التنمية المستدامة
- العمل الجماعي بين الضحايا والناجين والمجتمع المدني.
- التواصل المباشر مع الحكومة.
- الدعم المباشر للضحايا والجماعات المتضررة.
- سياسات التنمية المراعية للضحايا.
إن العمل على خلق عالم ينعم فيه الجميع بالعدالة والمساواة والسلام يتطلب جهوداً من نواح شتى فالجانب المجتمعي يدعم الجانب القانوني والأفراد يدعمون المجتمع.
فلكل فرد أو جهة دور مهم في بناء هذه المساواة، وفي تحقيق العدالة الاجتماعية والجندرية للأفراد.
إن الوصول لمجتمع نساؤه وفتياته متمكنات وقويات ومحميات من كل مظاهر العنف عبّد الطريق لمجتمع متطور وإنساني يحصل فيه كل فرد على حقوقه، وكل انثى على حقوقها أيضاً.