أصبت بعطاس شديد متكرر وأخذت عيناي تدمع، ثم دخلت زميلتي بأنفٍ محمرّ مطالبة بمناديل، شبّهنا أنفسنا بشخصيات أفلام الكرتون وضحكنا رغم انزعاجنا الشديد من الحساسية، أصيب زميلنا بعدوى الضحك، رنّ الهاتف، إنه قائد الفريق ضمن المنظمة التي نعمل بها، صوته مختلف وكأنه يبكي، ضبطنا أنفسنا عن الضحك ما استطعنا سبيلا، يبدو أن الجميع مصاب بحساسية الربيع فلرائحة الزهور وجمالها ضرائب يجب أن تُدفع، خلال تبادلنا النصائح ووصفات الأدوية المضادة للحساسية تذكرت بأنني قرأت ذات مرة عن “أداة لقياس الحساسية الجندرية” فقلت للزملاء ممازحة: يبدو أن هناك نوع من الحساسية لا يوجد له دواء!
توقع الجميع أن مفهوم الحساسية الجندرية يعني مواقف حساسة قد يتعرض لها أحد الجنسين بسبب جنسه أو نوعه الاجتماعي، ولأنني كنت أعتقد ذلك مثلهم تماماً بحثت عن المفهوم لأجد معنى أكبر من المعاني التي اعتقدناها وسبب لولادة هذا المفهوم.
ماذا تعني الحساسية الجندرية؟
وُلد مفهوم الحساسية الجندرية مع قرار مجلس الأمن رقم 1325 عام 2000، حيث نص على أهمية تواجد النساء في أماكن صنع القرار ومفاوضات السلام والقطاع العسكري وغير ذلك من القطاعات المهمشة للمرأة وتلى صدور القرار خلال السنوات الثلاثة والعشرين الماضية الكثير من المؤتمرات والتدريبات والمحاضرات والأبحاث التي تعمل على تعزيز ما ورد به من بنود وأفكار في المنطقة العربية والعالم. رغبت بمشاركة زملائي هذه المعلومات وطرح بعض الأسئلة الواردة ضمن أداة تقييم الحساسية الجندرية التي اطلعت عليها سابقاً مثل: هل يوجد مساواة بين الجنسين ضمن المنظمة التي تعمل/ي بها؟
هل تشارك النساء في عملية التوظيف؟
هل تتعاطف منظمتك مع النساء؟ إلخ.. اعترض زميلي حماسي ووجه لي العديد من الأسئلة المقابلة التي تؤكد التعميمات المجتمعية والصور النمطية عن الذكور والإناث في المرحلة الحالية.
كانت الأسئلة سريعة ومباغتة من قبيل: ألا تلاحظين أن فرص العمل باتت متوفرة للإناث أكثر من الذكور، حيث نقرأ في معظم إعلانات التوظيف مطلوب محاسبة أو مديرة أو منسقة؟
هل تعلمين أنه أينما وُجدت أنثى في العمل وُجدت مشكلة “نحنا الشباب بضيافة سيجارة منحل مشاكلنا، إنتو البنات بتستمر المشاكل بيناتكن”، وتابع: “في إحدى مقابلات العمل السابقة لاحظت دخول فتاة قبلي إلى المقابلة، سرعان ما تم قبولها على الفور ورفضوا مقابلتي، هل تجدين ذلك مهنياً؟ أم أنه مجرد استلطاف واستعطاف للأنثى؟”
تدخلت زميلتي لتخفف حدة الجلسة: “شبابنا سافروا، طبيعي تكون فرص العمل للإناث أكتر”
بدت بعض الأسئلة لبرهة منطقية، وبدا الأمل بالعدل بالنسبة لي بعيداً، إذا فالحساسية الجندرية تعني أن تكون حساساً تجاه طريقة تفكير الناس حول الجندر، وهذا يعني أنني مصابة بها، ويعني أن القدرة على رفع الحساسية تجاه الجوانب الجندرية في المجتمع وفي البيئات المهنية تجاوزت سنوات من الاجتماعات والأبحاث والتدريبات التوعوية الصادقة منها والمسؤولة، أو التي تتبع “التريند” والضوء الإعلامي، أو المتطرفة منها والهجومية والتي تنفر عدد المؤمنين بقضايا المساواة الجندرية أو المدافعين عنها بدلاً من جذبهم وزيادة فاعليتهم.
دراسات عالمية متعلقة بالحساسية الجندرية
في دراسة عالمية لتطبيق قرار مجلس الأمن للأمم المتحدة 1325 تبين أن النساء تشكل 3% من البعثات العسكرية في الأمم المتحدة، ويتم توظيف أغلب هذه النسبة ضمن كادر الدعم. ونسبة 1% ضمن قوات حفظ السلام و%3 فقط من الجيش المغربي مكون من النساء!
كما أظهرت الدراسة نفسها أن الحفاظ على السلام في عالم يُعسكر بصورة متزايدة يعود لحضور المرأة في قطاع الأمن حيث يقلل وجودها بشكل كبير من الشكاوى من سوء السلوك، ومعدلات الاستخدام غير السليم للقوة، والاستخدام غير المناسب للأسلحة. كما أظهرت التحليلات العالمية المفصلة في الدراسة أن مشاركة المرأة تزيد من احتمال دوام اتفاقية السلام لمدة عامين على الأقل، في حين يجزم زميلي جزماً قاطعا” أنه أينما وجدت امرأة وجدت مشكلة”!
أما المجتمعات المتضررة بالصراعات والنزاعات والتي اختبرت مستويات عالية من التمكين لعدد كبير من النساء شهدت انتعاشاً اقتصادياً وتقليل للفقر بشكل أسرع.
تظهر الأدلة أن مشاركة المرأة بأعداد كبيرة في الخطوط الأمامية لتقديم الخدمات – سواء كضابطات شرطة أو موظفات تسجيل أو قضاة أو كتاب محكمة أو معلمات أو موظفات في الرعاية الصحية أو مرشدات زراعيات – تؤدي إلى تحقيق جودة أفضل للخدمة المقدمة لكل من الرجل والمرأة.
تدريب حول الحساسية الجندرية
ضمن مشروع النساء والسلام والأمن قامت شبكة الصحفيات السوريات بتدريب عدد من الصحفيات/ين حول الصحافة الحساسة للجندر ورفع الوعي حول المواضيع المرتبطة بالقرار 1325 وكسر العماء الجندري وزيادة الحساسية للنوع الاجتماعي وذلك من خلال مشاركة مؤسسات إعلامية عالمية.
عبر قراءتي تقرير المشروع لمست الجهد المبذول والمسؤولية والجدية في العمل لكن ما استوقفني أن المؤسسات قامت باختيار المشاركات من النساء في فريقها بنسبة 70% في حين المشاركين الرجال بنسبة 30%!
يضعنا ما سبق أمام سؤال: هل المرأة فقط من تحتاج لرفع الوعي في أهمية دورها ووجودها وفاعليتها؟
ألا يحتاج الرجال بالفعل لرفع الوعي في قضايا العدالة الجندرية؟
هل هذا التنفيذ يتطابق فعلاً مع إرادة التغيير الحاضرة؟ أم أنه قد يُعرّض كل ما بُذِل من جهد للومٍ صريح؟
إن إرادة التغيير والإيمان بالقضايا النسوية قد تتحول عند فئة من الناشطين/ات في هذا المجال إلى ردود أفعال أو معركة لإبراز العضلات والإمكانيات، فإما النصر أو الهزيمة في حين مفهوم المساواة والعدل بعيد كل البعد عن وجود طرفي صراع، بل يناشد الجميع للوقوف معاٌ على ضفة السلام.
الحساسية الجندرية تصيبنا جميعاً
ربما وجدتم العديد من أفكار أصدقائكم في صوت زميلي وأسئلته، وربما بعد تجاوزنا لصدمة الوهلة الأولى يمكننا الإجابة على تلك الأسئلة المعتمدة على رؤية محدودة مؤطرة للأنثى والذكر على حدً سواء ضمن مهن ومجالات وقطاعات عمل حددها السياق الاجتماعي بناءاً على اعتقادات أو معتقدات قد لا تناسب كل الأزمنة أو الأمكنة، لا يمكننا نكران أننا جزء صغير من عالم كبير لازالت المرأة ضمنه بعيدة عن أماكن صنع القرار والتواجد السياسي العادل جنباً إلى جنب الرجل. في حين يشار إليها بأنها سارقة فرص العمل في بلادٍ مات وحارب وهاجر وسُجن ومرض معظم شبابها ورجالها، فاضطرت المرأة لأن تغطي العجز الحاصل في ميزانية الأسرة أو الاستمرار في عمل زوجها بعد موته، وربما خوض مهن جديدة أثبتت براعتها بها وكسرت الصورة النمطية التي رسمها لها المجتمع.
كما لا يمكننا نكران أننا عالم صغير في كون كبير يخوض بعض الرجال في بعض مناطقه تجارب عنيفة جسدية أو نفسية تخالف التصور السائد، حيث تشير إحصائيات في العراق على سبيل المثال إلى نحو 3797 حالة عنف و568 حالة انتحار لرجال معنّفين بين عامي 2014-2020 وإلى نحو 233 حالة تعنيف ضد الرجال في عام 2022.
مازالت أعداد النساء المعرّضات للعنف والاضطهاد والاستغلال تفوق أضعافاً مضاعفة أعداد الرجال، لكنني أستطيع أن أؤكد أن النقاش السائد في المجتمع ناتج عن أمثلة من المحيط الضيق الذي نعيش فيه فقد تطفو قصص قليلة على العلن في حين أن الواقع المستور مخيف، الأرقام فقط والدراسات التحليلية هي ما يؤكد بعد المسافة عن المساواة المنشودة أو ما أفضل تسميته بالعدالة الجندرية في حين أن الطريق الطويل يجب أن لا يوقف الفاعلين/ات في مجال زيادة الحساسية للجوانب الجندرية في أماكن العمل والمجتمع عن عملهم بشتى الطرق والوسائل. علينا العمل بأقلامنا وأفكارنا أو عبر دعم الجيران والأصدقاء وقبولهم/ن، فالفرص المهنية يختارها الانسان -بغض النظر عن جنسه- لأنه يحبها أو يبرع بها أو شغوف بها أو ربما فقط لأنه مضطر للقيام بهذا العمل.
نحن بحاجة لفهم وتحليل الواقع دون الاستناد على أفكار قديمة قد لا تتناسب مع الظروف الحالية ونحتاج للاستمرار بالتأكيد على التوعية ضد العنف القائم على النوع الاجتماعي وليس العنف ضد المرأة وحسب، علينا أن نعلم بأن الحساسية تصيب الجميع وفي كل الفصول ويتوجب علينا جميعاً ذكوراً وإناثاً إيجاد الدواء!
إعداد: رغد شجاع
كما لا يمكننا نكران أننا عالم صغير في كون كبير يخوض بعض الرجال في بعض مناطقه تجارب عنيفة جسدية أو نفسية تخالف التصور السائد!