كنا نلعب في إحدى حارات قريتي مع أقراني من الصف السادس والسابع، في مرحلة كنا قد بدأنا فيها نعدّ أنفسنا الجيل الكبير في المدرسة كوننا كنا أطول الطلاب في المرحلة الابتدائية، و بدأنا أيضاً نعتقد حينها أننا نمتلك قراراتنا وأفعالنا أكثر، أي أنها تعود بملكيتها لنا وليس لما يراه الأهل على صواب. ورغم أن ألعابنا كانت حماسية وذات سيناريوهات تلائم هذه المرحلة، إلا أنها لم تكن تخلو بعد من صبغتها الطفولية المليئة بالخيال والمتعة واللامنطق أحياناً.
“كذبة بيضا”:
في كل مرة كنا نعود فيها إلى المنزل محملين بمغامرات جديدة ودهشة لا تنتهي، واكتشافات بريئة ولقى من أحجار أو أصداف. كانت تنتظرنا أمي ويعلو وجهها ابتسامة عريضة، تخبرنا فيها من دون كلام، كم هي مشتاقة ومتشوّقة لسماع تفاصيل المغامرة الجديدة، حتى جاء ذلك اليوم الذي عدت فيه إلى المنزل، وقد بللت دموعي وجهي وثيابي، واخترقت حذائي وقدمي قطعة كبيرة حادّة من الزجاج جرّاء قفزنا من (حائط الكشك السحري – كما كنا نسميه- * غرفة مهجورة كنا نتخذها مقراً لمغامراتنا)، ونتيجة منظر الدم النازف من قدمي لاذ بعض أصدقائي بالفرار وبعضهم بكى خوفاً أو تنحى جانباً يترقّب، وقد طلبوا مني ألّا أروي القصة الحقيقية لعائلتي حتى لا ينتقل الخبر لأسرهم وبالتالي سيتم منعنا من اللعب في تلك المنطقة التي نهوى. وأنها “كذبة بيضا” أن أقول لأمي أن ما حدث كان في الشارع وبمحض الصدفة.
منذ اللحظة التي وصلت فيها للمنزل، كانت أمي حريصةً على تهدئتي وعلى أن تجعلني متماسكة مثلها، وأساهم أنا نفسي بالضغط على الجرح ريثما نصل للعيادة. كنت طوال الوقت أفكر هل أفي بوعدي لأصدقائي من خلال” الكذبة البيضاء” أم أقول لأمي ما حدث، معرضة نفسي لاحتمالية فقد المكان المفضل لنا.
انتهت مراحل ضماد القدم وخياطة الجرح ومصل الكزاز، وعدنا للمنزل وأنا أترقب بحيرة وقلق موعد سؤال أمي عما حدث.
كان جلياً لها مدى ارتباكي، وأعتقد أنها كانت تقرأ بوضوح ما خبأته عنها وأظهرته عيناي، لكنها هدأتني بقولها: ابنتي، أياً كان يحدث فإننا عندما ننقله بصدق، نستطيع أن نجد له حلاً، ليس هناك كذباً أبيض، الكذب هو كذب، وقيمنا لا تتجزأ، لكن ما يحدث معنا بمرور الأيام من تجارب كفيل بأن يعلمنا كيف نمارس قيمنا بشكل صحيح.
عرفت لاحقاً، أن ما فعلته أمي هو التنفيذ العملي الفطري لمفاهيم الإسعاف النفسي الأولي (حين هدأتني وجعلتني شريكة في إيجاد الحل) وأدوات التربية القيمية الصحيحة التي قرأت عنها لاحقاً أو اختبرتها ضمن ورشات العمل المجتمعي ومحطات ومحكات الحياة.
كيف تتشكل منظومة القيم؟
مما سبق ومن قصص كثيرة في مجتمعاتنا، ندرك أهمية دور الأسرة ومحيط الطفل كالأصدقاء والمدرسة في فهم وممارسة القيم بشكلها الصحيح الكامل، بعيداً عن قولبة القيمة أو جعل مفاهيمها “مطاطية” لتلائم فقط ما نرغب وليس ما هو الصحيح كالجملة الشائعة أيضاَ (عم “يستفيد” من مكانه) لتخفيف وطأة كلمة سرقة على السمع حتى باتت كلمة اعتيادية وبالتالي اعتيادية وقع الحدث في نفوسنا بدلآ من استنكاره.
ونستذكر بعضاً من تجارب الدول المتقدمة التي تهتم بمجال الصحة النفسية والسلوكية للطفل، وتحرص على أن ينمو الطفل في حاضنة قيمية صحيحة ودقيقة كاليابان. حيث ورد عن صحيفة جابان تايمز أن المجلس المركزي للتربية، وهو مجلس استشاري لوزارة التربية اليابانية يعتبر أن التربية الأخلاقية تؤدي دوراً مهماً في مساعدة التلاميذ على تحقيق حياة أفضل لهم، بالإضافة إلى تأمين تنمية مستدامة للمجتمع والدولة. ولذلك السبب، يجب أن تشكل المادة جوهر التعليم المدرسي، بعد أن شكّل تعليمها بطريقة غير رسمية “فجوات ضخمة” بين المدارس والأساتذة. وتضيف أن هذه المادّة تشمل معالجة مشكلة التنمّر في المدارس. وتضمّن التقرير الصادر عن المجلس دعوة إلى تربية التلاميذ على تنمية القدرة لمواجهة القيم “المختلفة وأحياناً المتقابلة” من أجل “التفكير بطريقة مستقلة وللانخراط في الحوار والتعاون مع الآخرين من أجل تحسين حياة الأفراد والمجتمع”. ونصّ التقرير، بحسب الصحيفة على أن “فرض قيم معيّنة على التلاميذ أو تعليمهم على التبعية العمياء لما قاله الآخرون لهم من دون التفكير بشكل مستقل، يعاكس الهدف من التربية الأخلاقية”.
مراحل تشكل منظومة القيم
إذاً لنفهم أكثر مراحل تشكل منظومة القيم لدى الإنسان علينا أن نفهم أكثر مراحل النمو الأخلاقي حيث يوضح الدكتور يحيى سعد في دراسة نشرها على موقع دراسة أن مراحل النمو الأخلاقي والحكم الأخلاقي عند لورانس كولبرج يمر في نموه عبر ثلاثة مستويات، كل مستوى يتكون من مرحلتين.
أولاً: المستوى قبل التقليدي Pre-conventional level
يستمر هذا المستوى منذ ولادة الطفل وحتى بلوغه تسع سنين، حيث يتأثر الطفل بالثقافة والقواعد والتسميات للخير والشر والصواب والخطأ. ويتلقى الطفل هذه الثقافة من الوالدين والمعلم والأشخاص الأكبر سناً من حوله. ويتضمن هذا المستوى أول مرحلتين من مراحل النمو الأخلاقي عند الأطفال:
- التوجه نحو العقاب والطاعة: حيث يبدأ الطفل في الربط بين الأفعال السيئة والعقاب، وبين الأفعال الحسنة والثواب. لكن الطفل في أولى مراحل النمو الأخلاقي لا يدرك المعنى الإنساني وراء هذه الأحكام الأخلاقية، وإنما يحترمها خضوعاً لمن أطلقها، كالوالدين أو غيرهم.
- التوجه النفعي النسبي: حيث يرى الطفل أن الفعل الصحيح هو الفعل الذي يشبع حاجته الشخصية، أو حاجات الآخرين. كما أن الطفل يميل إلى تفسير العلاقات البشرية بطريقة مادية، ليست مبنية على القيم الإنسانية، وإنما على تحقيق المنفعة الشخصية.
ثانياً: المستوى التقليدي Conventional level
يمتد هذا المستوى من سن التاسعة إلى بلوغ الخامسة عشرة. وفيه يتخذ الطفل مسلكاً ينسجم مع توقعات الأسرة والمجتمع، ويتجلى ذلك في دعم القوانين والمحافظة عليها. ويشتمل هذا المستوى على مرحلتين هامتين من مراحل النمو الأخلاقي عند الأطفال، وهما:
- مرحلة توافق العلاقات الشخصية المتبادلة: وفيها ينحاز الطفل للأفكار السائدة عن ماهية السلوك الحسن، كما يميل إلى التحلي بالسلوكيات التي تنال استحسان الآخرين ورضاهم. كما أنه يميل للحكم على مقاصد السلوك، بدلاً من الحكم على ذات السلوك، وبالتالي فإن أحكامه الأخلاقية لا تعتمد على نتائج الفعل، وإنما على نية الفاعل.
- التوجه نحو النظام والقانون: ففي هذه المرحلة من مراحل النمو الخلقي، يميل الطفل إلى التماشي مع القوانين والنظام الاجتماعي السائد، عبر احترام السلطة وأداء الواجبات. والفرق بين الالتزام بالنظم الاجتماعية في هذا المستوى وسابقه.. أن الرغبة في الالتزام هنا نابعة من داخل الطفل، بينما يكون التزاماً خارجياً إجبارياً خلال المرحلة السابقة من مراحل النمو الخلقي عند الأطفال.
ثالثاً: المستوى بعد التقليدي الاستقلالي Post conventional autonomous level
يشهد هذا المستوى أكثر مراحل النمو الخلقي تقدماً، حيث يسعى الفرد لتحديد المبادئ والقيم الأخلاقية. ويشتمل هذا المستوى على المرحلتين الأخيرتين من مراحل النمو الأخلاقي عند كولبرج، وهما:
- التوجه نحو العقد الاجتماعي: وفي هذه المرحلة ينمو وعي الفرد بنسبية القيم والآراء الشخصية. فيحكم الفرد على صحة الفعل من خلال مدى تقيده بحفظ الحقوق الفردية والعامة، بالإضافة إلى تقيده بالمعايير المجتمعية.
- التوجه الأخلاقي العالمي: وهذه المرحلة هي أعلى مراحل النمو الأخلاقي عند الفرد، فالفرد يعتبر الضمير الأخلاقي الإنساني هو مرجعية الصواب. وتعتبر هذه المرحلة هي مرحلة المبادئ الكلية التي تشمل المساواة والعدالة في الحقوق الإنسانية.
من هنا يتضح جلياً أين تتكون الثغرات القيمية لدى الفرد وأسبابها في كل مرحلة لذا كانت تجارب الدول التي تهتم ببناء منظومات قيمية متينة مبنية على فهمها العميق للأدوار في كل مرحلة، كانت تنتج أجيالاً لا تسمح بتجزيء القيمة ولا تجعل للكذب ألواناً أو يصبح انتقاص القيمة ثقافة عادية رائجة لديها لتغطية الأخطاء والثغرات.