تبقى والدتي مستيقظة بعد نومنا بساعة، تقوم بتحضير الرز بالحليب أو الكاسترد بالبسكويت والكاكاو، ثم تضعه في البراد لتجمد للصباح، وتقدمه مع القهوة لجاراتنا، كل يوم نستيقظ لنشارك جاراتنا الرز بالحليب الذي يتميز بنكهته الخاصة وسط ثرثرة نسائية مليئة بالفوضى.
جارتنا نواهد والتي “يذكرنا أخي الكبير دائماً بأن اسمها مطابق لفكرها تماماً”، تبتسم وتتحدث دون توقف، لا تبخل بمشاركة حديثها عن الأمور الحميمية التي تخص جاراتنا أمامنا، وعندما تلاحظ عدم رغبة أمي في الاستماع إلى مثل هذه الأحاديث، تحول مواضيع الحديث بسرعة إلى أمور روتينية تتعلق بالطبخ والتنظيف.
صباح اليوم، استيقظت أنا وإخوتي لنلتقط الرز بالحليب قبل وصول أيٍّ من أبناء الجيران، كي لا يقوموا بخطفها منا بحجة أننا أهل البيت ويجب علينا تقديم الحلوى للضيوف، ولكن لم نرى أي أحد حتى أمي!
بحثنا عن أمي في الأحياء بين الدكاكين وبيوت الجارات إلا أننا لم نجدها، عدنا إلى المنزل لنجدها هي والقابلة القانونية وامرأة غريبة، اقتربنا منهن رغبة منا بتقديم التحية كما علمتنا أمي إلأ أن الأخيرة صرخت صوتا غاضباً طالبة منا بدخولنا للغرفة وإغلاق الباب بسرعة وخاصة أخي الكبير.
فتحت أمي الباب علينا بعد دخولنا بساعة وأخبرتنا أنها ذاهبة مع جارتنا الجديدة إلى الطبيب ثم طلبت منا أن نتناول نحن وأبناء القابلة الرز بالحليب تعويضاً عن الفطور التي يجب عليها وضعه.
أحضرنا الزبادي المحلاة وجلسنا كجاراتنا وجلست ابنة القابلة وأخذت دور جارتنا نواهد وبدأت بقص حكاية المرأة الغريبة الموجودة كانت في بيتنا، إنها عروس جديدة لم يمضي على زواجها أكثر من ثلاثة أشهر إلا أن زوجها كما تقول أمي عنيف جنسياً وباعتباره رجلاً يجب عليها الخضوع له بالطرق والأساليب التي يرغب بها وعند عدم تنفيذها لهذه الأوامر يقوم بضربها إلى أن وصل بها الأمر اليوم وأجهضت.
أغضب ما حصل مع المرأة أختي الكبيرة وأفصحت عن غضبها بقولها : “الرجال أشرار”، لتضحك ابنة القابلة كجارتنا نواهد تماما وترد عليها: “عادي نواهد بتعنفه لزوجها بكل الأشكال”
الآن يتم طرح مفهوم العنف القائم على النوع الاجتماعي في هذه الألفية الجديدة بشكل آخر غير مسبوق إذ لم ينحصر طرح ومناقشة المفهوم مثل قبل بين الجمعيات الإنسانية والندوات والمنظمات الدولية!
اليوم أصبح هناك جمهور قادر على المشاركة والتعبير وإبداء الرأي والتأثير في القضية وجعل أحد قضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي رأي عام في أي شارع من شوارع أي مدينة أو دولة باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن هناك الآلاف بل الملايين من الأشخاص تعتقد بأن هذا المفهوم يصب في مصلحة المرأة فقط ويساعدها وينصفها من العادات والتقاليد ومن أشكال العنف.
ما هو العنف العنف القائم على نوع الجنس أو النوع الاجتماعي؟
العنف القائم على نوع الجنس هو العنف المرتكب ضد شخص بسبب جنسه، وهو إجبار شخص على القيام بشيء ضد رغبته وإرادته من خلال العنف أو الإكراه أو التهديد أو الضغط الثقافي أو الوسائل الاقتصادية. وعلى الرغم من أن غالبية الضحايا والناجيات من العنف الجنسي والعنف القائم على نوع الجنس هم من الفتيات والنساء، فإن الفتيان والرجال يمكن أن يتضرروا من هذا العنف أيضاً.
متى وكيف يمارس العنف القائم على النوع الاجتماعي؟
للأسف يرتكب العنف في أماكن مختلفة وفي أي وقت وزمان، ولا تتوقف هذه الممارسات حتى في الأماكن العامة إذ يمارس العنف سواء على المرأة أم الرجل أو حتى الطفل في المنتزهات والحدائق العامة، كما يحدث في المدرسة والطريق، البيت، الأسواق وفي وسائل النقل العامة والخاصة.
اليوم يمارس العنف القائم على النوع الاجتماعي بأشكاله بكل جرأة ويقوم بسلب حريات وإهانة وضرب النساء والرجال والأطفال بوضح النهار وأمام أعين الجميع ولا يستطيع أحد التدخل لأن هناك دائماً مبررات مجتمعية توقف المجتمع لحماية الفئات الهشة.
تقول إحدى الضحايا عندما سُئلت: “ما أكثر أشكال العنف ممارسةً عليك؟” توقفتٌ قليلاً وبدا عليها الارتباك، ثم قلت: “لم أستطع التمييز بينها، لقد كان وحشاً.”
أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي
تتنوع أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي لأكثر من نوع وهي:
أولاً: العنف الجسدي
هو استخدام القوة البدينة بشكل عنيف ضد الأخر ويشمل العنف الجسدي: الضرب والصفع والدفع والعض والحرق والتعذيب والاختناق وغيرها.
ثانياً: العنف العاطفي
يعتبر العنف العاطفي من أكثر الممارسات التي تمارس في سوق العمل ليس فقط بين أفراد العائلة أو الشركاء، تشمل المعاملة المهينة أو المذلة، التسميات العدائية والمسيئة للفرد، الإهانة المستمرة، النقد السلبي المستمر، المضايقة والتحرش، كما يمارس كل من الرجل والمرأة الحرمان العاطفي ضد الأخر عند الطلاق وخاصة في حال وجود أطفال.
ثالثاً: العنف الجنسي
إجبار الشخص على المشاركة في أنشطة جنسية بالتهديد أو بممارسة العنف الجسدي واللفظي عليه ويشمل العنف الجنسي: الاغتصاب، التقبيل واللمس غير المرغوب فيهما، ختان الإناث وغيرها.
كما يتخذ العنف القائم على النوع الاجتماعي أشكالا أخرى مثل: حرمان الفرص، الوصول إلى التعليم والنظام الصحي، بالإضافة إلى الحرمان من الموارد الاقتصادية، لكن في هذا المقال سنركز على العنف الجنسي كأحد أخطر أنواع العنف القائم على النوع الاجتماعي.
“خلال مراهقتي، كنت أعمل جاهدةً لأخفي مصروفي اليومي وأتجنب مشاركته مع إخوتي، بدلاً من ذلك كنت أتوجه مرارًا وتكرارًا إلى الدكان لأجلب المكافآت من أمي لوحدي. كانت أمي تعتبر ذلك مظهرًا من مظاهر الاحترام تجاهها، لكن في نهاية كل أسبوع، كنت أدخر مصروفي وأقتني نسخة جديدة من روايات عبير. كان الحب يبدو رائعًا في تلك الروايات، جريئًا ورقيقًا، حتى وصلت تلك الجارة الغريبة بصحبة القابلة.”
ما هو العنف الجنسي؟
العنف الجنسي هو أي تصرف أو فعل اتجاه فرد سواء كان امرأة أو رجل أو طفل، ويكون هذا الفعل ممارساً بالإكراه باستخدام العنف الجسدي والنفسي واللفظي والاقتصادي.
“عندما بدأنا بالاعتماد على أنفسنا قليلاً، كانت أمهاتنا يعطينا أهم التعليمات، مثل كيفية الذهاب إلى المدرسة والعودة إلى البيت، وكم يحذّرنا بعدم السماح لأحد بالاقتراب منا أو تقديم شيء لنا. كنا نعتقد أن ذلك مجرد تحذيرات مبالغ فيها، حتى جاءت لنا قصص عن أطفال في الحي تعرضوا للاعتداء الجنسي، واضطرت عائلاتهم لترك المنطقة خوفًا على سمعتهم.
اليوم، يمكن لطفل يبلغ خمس سنوات فهم وشرح معنى الاعتداء الجنسي بعد مشاهدته له على الإنترنت، فالهواتف الذكية دائمًا متاحة مع أبناء هذا الجيل. ومع ذلك، لا يمتلك كل الأطفال هواتف ذكية أو حتى وصولًا للإنترنت، وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها.”
العنف الجنسي أو الاعتداء الجنسي على الأطفال
العنف الجنسي هو كل تلامس جنسي بين شخص بالغ وطفل، ولا يتطلب الاعتداء الجنسي بالضرورة حدوث اختراق أو استخدام القوة أو الألم أو حتى التلامس. إذا انخرط البالغ في أي سلوك جنسي (النظر أو العرض أو التلامس) مع طفل لتلبية اهتمامه أو احتياجاته الجنسية، فهذا يعتبر اعتداءً جنسيًا.
لا يقتصر الاعتداء على الأطفال للأشخاص الكبار فوق ثمانية عشر عاماً، حتى المراهقين في حال ممارستهم للاعتداء على أطفال أقل منهم عمراً بثلاث سنوات يعتبر اغتصاب أو اعتداء جنسي ويحاسب عليه القانون في كل دول العالم.
يُعتبر الاعتداء الجنسي الأطفال جزءًا من العنف القائم على النوع الاجتماعي عندما تساهم الفوارق والأدوار المتعلقة بالنوع في حدوثه أو تفاقم تأثيراته.. كيف؟
غالبًا ما يكون الاعتداء الجنسي على الأطفال مرتبطًا باستغلال الفروق في القوة بين المعتدي والضحية، وفي بعض الحالات يكون الاعتداء الجنسي مدفوعًا بالتصورات والأدوار التقليدية المتعلقة بالنوع الاجتماعي، مثل اعتداء الذكور على الإناث بسبب الشعور بالهيمنة أو السلطة أو حتى قدرة العادات والتقاليد على التأثير في تعزيز قدرة الذكور على الاعتداء على الإناث.
“لم يتغير فقط مسار صباحنا في ذلك اليوم… لقد جعلت تلك المرأة الجديدة مسار الحي يتغير، ملابسها الملطخة بالدماء، والتي قد تكون إحداها قطرة من دماء ابنها.”
أثر العنف القائم على على النوع الاجتماعي على الفرد والمجتمع
أثر العنف القائم على النوع الاجتماعي على المرأة:
وفقًا لتقرير صادر عن هيئة الأمم المتحدة للمرأة، تشير التقديرات إلى أن نحو 37% من النساء في الوطن العربي قد تعرضن لشكل من أشكال العنف الجنسي أو الجسدي من قبل شركائهم في حياتهن. كما تشير الدراسات إلى أن نسبة غير قليلة من النساء تتعرض للعنف الجنسي في أماكن العمل والأماكن العامة.
كما تُظهر بيانات أخرى من تقرير “المرأة والأمن والسلام العالمي” أن واحدة من بين كل ثلاث نساء في الوطن العربي تعرضن لشكل من أشكال العنف الجنسي في حياتها، سواء كان ذلك داخل الأسرة أو خارجها التي حتماً لها تأثيرات كبيرة:
- تأثيرات جسدية: تتعرض النساء لإصابات خطيرة تتراوح بين الكدمات والجروح والكسور وقد تصل الإصابات الى عاهات دائمة.
- تأثيرات جنسية: تعاني السيدات من عنف جنسي قاسي ويؤدي بدوره الى مشاكل صحية جنسية مثل الأمراض المنقولة جنسيا، الحمل غير المرغوب به، الإجهاض والعديد من الأمراض المنتقلة عن طريق الجنس.
- التأثيرات النفسية: تعاني النساء من اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب، والقلق، واضطراب ما بعد الصدمة والكثير…
- تأثيرات اجتماعية: تعاني النساء من العزلة الاجتماعية بسبب العادات والتقاليد بالإضافة الى الخوف من الوصمة الاجتماعية، كما تعاني العديد من النساء صعوبة في متابعة التعليم مما لا يسمح للمرأة من الانخراط في المجتمع، كما تعاني الأسرة بأكملها التي تتعرض بها الأم للعنف بأشكاله الى صعوبة في التواصل مع الأطفال والذي بدوره يؤثر سلبا في علاقتها مع أطفالها ويجعل من البيت بيئة غير مستقلة.
أثر العنف القائم على النوع الاجتماعي على الطفل
تشير الدراسات والتقارير الصادرة من اليونيسيف بأن 70% من الأطفال في الوطن العربي يتعرضون للعنف وهي تعتبر نسبة كبيرة وتشمل الدراسة العنف الممارس على الأطفال في المنزل والمدرسة، والعنف المجتمعي، ولها العديد من الآثار:
- التأثيرات الجسدية: قد يتعرض الأطفال لإصابات جسدية مباشرة نتيجة العنف.
- التأثيرات الجسدية: يتعرض الكثير من الأطفال لإصابات جسدية نتيجة ممارسات العنف عليهم مثل: الكسور والكدمات، والجروح، والتعرض المستمر لهذا يؤدي بدوره إلى مشاكل صحية مزمنة مثل آلام المعدة، عاهات دائمة، صداع، اضطرابات النوم والقلق، وهذا أيضا بدوره قد يؤثر على النمو الجسدي للأطفال بسبب الإهمال وسوء التغذية.
- التأثيرات النفسية: يعاني الكثير من الأطفال من القلق والاكتئاب، واضطرابات ما بعد الصدمة، كما يظهر الأطفال الذين يتعرضون للعنف أو حتى يشاهدونه لسلوكيات عدوانية أو انحرافية
- التأثيرات الاجتماعية: يعاني الكثير من الأطفال من العزلة الاجتماعية بسبب الخوف والخجل من البوح ومشاركة مشاعرهم ومشكلاتهم لذا يجدون صعوبة في التواصل والتفاعل مع أقرانهم، كما يؤثر العنف على الكثير من الأطفال وعلى مستواهم التعليمي بسبب إيجادهم صعوبة في الانتباه والتركيز. .
أثر العنف القائم على النوع الاجتماعي على الرجل
للأسف ليس هناك دراسة أو تقرير لنسبة واضحة وحقيقية عن العنف القائم على النوع الاجتماعي على الرجال وخاصة في الدول العربية باعتبار أن العنف ضد الرجال يعبر محظورا في كثير من المجتمعات العربية.
وله العديد من الآثار:
- التأثيرات الجسدية: أيضا يعاني الرجال من إصابات جسدية نتيجة العنف الممارس عليهم من جروح وكسور وقد يؤدي ممارسة العنف المستمر عليهم إلى إصابات مزمنة مثل ارتفاع ضغط الدم، السكري، أمراض القلب وغيرها.
- التأثيرات النفسية: بعد الحروب والأزمات تظهر على الرجل تأثيرات نفسية نتيجة العنف وهذا بدوره يؤدي إلى ظهور مشكلات واضطرابات نفسية مثل القلق والاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة بالإضافة إلى سلوكيات عدوانية أو انعزالية. الرجل في الدول العربية أكثر عرضة للانتحار نتيجة الوصمة والعار وخوفه الاجتماعي من مشاركته بوحه لمشاعره وتعرضه للعنف بأشكاله.
- التأثيرات الاجتماعية: يلجأ الكثير من الرجال المعرضين للعنف إما للعزلة الاجتماعية أو لسلوكيات غير مرغوب بها لذا يجد صعوبة في تكوين علاقات مع عائلته أو أقرانه أو حتى مع شريكه.
- التأثيرات الاقتصادية: التهرب من العمل نتيجة الظروف، القلق والخوف وعدم الثقة بالنفس بالإضافة إلى احتمالية عدم الحصول على مستوى تعليمي مطلوب مما يخفض احتمالية حصول الرجل على وظيفة أو حتى الاستقرار في أي عمل.
إلى الآن، لا يزال العنف مستمراً، سواء كان موجهاً ضد المرأة أو الطفل أو الرجل. منذ طفولتي، كنت أعتقد أن الرجل هو ذلك الأمير، بطل الروايات والقصص، ذو الابتسامة الجميلة والثياب الرسمية المكوية بعناية، والشعر الذهبي المنسدل والممشط، الذي يأتي دوماً لينقذنا نحن الأميرات الجميلات من الوحش الكبير. إلا أن الوحش قد يكون أيضاً رجلاً، ولكن بزي بدائي مهمل وشعر متسخ وأسنان مهملة.
كما أن خالة سندريلا الشريرة تمثل الصورة الأخرى للمرأة الشريرة العنيفة والقاسية، والتي تشبه إلى حد كبير جارتنا القابلة.
الذاكرة عبارة عن صور ومشاعر تبقينا دوماً يقظين؛ نبتسم لحظة ونبكي لحظة أخرى. هذا ما يجعل الكثير منا يحلم ببناء أسرة معافاة وسليمة، واختيار الشريك الصحيح لبناء منزل وإنجاب أبناء ضمن بيئة سليمة نفسياً وجسديا.