كنا بحاجة عشرات الأيدي يومها، وكانت القلوب مبعثرةً بين أجزاء البلاد المنكوبة في تلك الليلة القاسية (زلزال 6 شباط | فبراير) التي لا يُمكن نسيانها… نستعيدها اليوم كبشرٍ ناجين جسدياً غيرَ راضين كل الرضا لأن قسوة الطّبيعة كانت ضربة مفاجأة في بلاد اعتادت على قسوة الحروب وتبعاتها، وغير راضين كل الرضا لأن الرضا هنا مرهون بالفكرة “فكرة” أن تباغتك كارثة على حين غرة فتقف كأنك لا حول لك ولا قوة، وكنا بحاجة مع الأيدي لشيء واقعي ليس بعيداً عن العواطف، ولكنه مكمل لها… آلية أو فكرة أو منهج نستطيع به أن نكون فاعلين وأقوياء حين يُتطلب منا ذلك كي لا نُعيد الكرّة، فكان منهج التقاطعات أو Triple Nexus …
ما هو نيكسس Nexus أو منهج التقاطعات؟
في خضم كل الأحداث المتسارعة التي تحيط بعالمنا من نزاعات وحروب ومجاعات وأمراض وكوارث وتغيرات مناخية، وما تخلفه على النفس الإنسانية من حاجات وأوضاع صعبة
كان لابد من تضافر الجهود الإنسانية في إطار تخفيف المعاناة على الأشخاص الذين يعايشون تلك الأحداث، للوصول إلى منهج قادر على تحقيق نتائج جمعية على المدى القصير والطويل، وبشكل منظم ينعكس إيجاباً على تلك المجتمعات فكان منهج التقاطعات أو Triple Nexus.
وقد خرج مفهوم نيكسس في القمة الإنسانية العالمية لعام 2016، وقد تم اعتباره أولوية لابد من العمل بها وقد تم التوصية بـ الرابطة الثلاثية في العام 2019، ويتضمن مفهوم نيكسس الرابطة الثلاثية ثلاث مفاهيم هي (الإغاثة _ التنمية _ بناء السلام).
وقد عُرِّف هذا المفهوم بأنه: تعزيز تماسك التعاون والتكامل بين هذه الركائز الثلاثة (إغاثة – تنمية – بناء السلام) لتلبية الاحتياجات الإنسانية بشكل فوري بحيث يؤدي هذا التعاون الواعي بين مختلف هذه الجهات الفاعلة إلى نتائج أفضل.
كما عُرِف أيضاً بأنه: العمل الذي يتم القيام به في أكثر الأماكن هشاشة بحيث يكون على مختلف الجهات الفاعلة أن تجمع قوتها للحصول على أفضل نتيجة ممكنة.
أي أن تقوم الجهات العاملة في المنظمات الإنسانية في هذه المجالات الثلاثة بتضافر جهودها معاً في أوقات النكبات بحيث تقدم خدماتها بشكل مترابط ومدروس وقادر على الوصول إلى نتائج إيجابية والتقليل من المخاطر، وأن تكون تلك الجهود مُخططاً لها ومستعدة لأي حدث مفاجئ، وبالتالي تعزيز التعاون والتنسيق بين هذه الجهات للوصول إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
وبالعودة مثلاً إلى زلزال 6 شباط | فبراير الذي حصل في تركيا وسوريا، وكانت نتائجه كارثية على كل من البلدين، وخلفت على أثره آلاف الضحايا، وشُرِّدت الكثير من الأُسر ودُمرت مدن بما فيها، وخاصة سوريا التي تعيش في ظل واقع اقتصادي صعب، وعدم وجود الجاهزية لاستيعاب مثل هذه الكارثة التي لم تحدث منذ 11 أكتوبر 1138، سواء أن تكون هذه الجاهزية على المستوى النفسي أو اللوجستي، وهنا يكمن دور منهج التقاطعات نيكسس في تضافر الجهود الإنسانية لتكون جاهزة لأخذ خطوات مترابطة في الأوقات الصعبة (زلزال شباط مثلاً) وأن تكون فاعليتها ليس فقط على مدى قصير بل طويل حتى الوصول إلى نتيجة إيجابية، فلو طبق هذا المنهج مثلاً في الزلزال الأخير كنا استطعنا تلافي جزء كبير من الأضرار لا سيما في مجتمع لم يهيئ لمثل هذه الكوارث.
لماذا يُعد منهج التقاطعات (نيكسس) مهم؟
كما أسلفنا فإن منهج الرابطة الثلاثية يشير إلى الروابط بين الجهات الفاعلة الإنسانية والإنمائية وبناة السلام ومن هنا تكمن أهمية نيكسس Triple Nexus، لأنه يساعدنا على التعامل مع أسباب أي حدث بعد فهم أسبابه والقدرة على التعامل معه وأخذ الخطوات في حال أي طارئ، فكل من الروابط الثلاثة لا يمُكن أن ينجح عملها دون الأخرى فهل من الممكن أن تتحقق التنمية مثلا بدون سلام؟! (السلام يتجسد في المصالحة بين الأطراف والبعد عن النزاعات في منطقة معينة) وكذلك الإغاثة لا يمكن أن تقوم بدون الإثنين ولا يمكن أن نحقق التنمية بدون أن نشبع الحاجات بداية، فمن خلال هذا المنهج يمكن تعزيز عملية التعاون المشترك بين هذه الجهات الثلاث وتعزيز الكفاءة والفاعلية وتقليل فجوات تقديم الخدمات والاستجابة المباشرة لحالات الطوارئ.
ويُعد تفاقم الأزمات وكثرة النزاعات في العالم سبباً من أسباب الحاجة لهذا المنهج، ولاسيما مع تزايد الاحتياجات الإنسانية الّتي قُدرت بنحو 168 مليون شخص محتاج في عام 2020، ومتطلبات التمويل لتلبية هذه الاحتياجات التي تضاعفت منذ العام 2010، والكوارث المتعلقة بالطقس من فيضانات وزلازل وعوامل أخرى كالفقر المدقع والأمراض (كوفيد 19 مثالاً).
ما هي أهداف منهج التقاطعات ؟
يمكن أن نضع هذه الأهداف في عدة نقاط بشكل مبسط تكمن في:
- إنقاذ الأرواح: من خلال الجاهزية والاستعداد لأي طارئ والإحاطة بالكوارث حين وقوعها وبالتالي التقليل قدر الإمكان من أعداد الضحايا حين نكون مهيئين.
- تخفيف المعاناة: قد تكون هذه المعاناة جسدية أو مادية أو نفسية، ومن خلال قيام كل من الركائز الثلاثة (الإغاثة – التنمية – بناء السلام) بدوره بشكل مشترك ومنسق، وبالتالي تخفيف هذه المعاناة على الضحايا.
- حماية الحقوق: في حالات الحروب والكوارث والنزاعات يتعرض الضحايا للظلم بكافة أشكاله ومن خلال منهج نيكسس يمكن الاهتمام بهذا الجانب قد يكون الحق مادي أو معنوي ، مثال: حين يتم تقديم المساعدة المادية يجب الاهتمام بوصول هذه المساعدة إلى جميع المتضررين على حد سواء.
- دعم كرامة المتضررين في الأزمات: من خلال القيام بكل ما يلزم لمساعدتهم على إكمال حياتهم كأشخاص ناجين قادين على دعم أنفسهم بأنفسهم دون أن يُتركوا كعبء (قد يكون هذا الدعم من خلال تقديم دورات تعليمية أو مهنية أو دعم مادي لمشاريع صغيرة) وبالتالي يمكنكم أن يعيشوا عيشاً كريماً دون أن يتعرضوا للإهانة أو يُنظر إليهم نظرات الشفقة.
- تقليل مخاطر الحاجة والضعف على المدى القصير والطويل: تتشابه مع الهدف السابق فحين نعتمد فقط على تقديم المساعدات سنفقد حماس هؤلاء الأشخاص للعمل ويمكن أن يعتمد هؤلاء الأشخاص على هذه المساعدات باختلاف أنواعها فلا يرغبون بالتطور أو تحسين أوضاعهم أو التفكير بالعمل وإكمال حياتهم كأشخاص منتجين وهذا قد يسبب بأن يصبحوا عبء على أسرهم ومجتمعاتهم، فالأفضل أن نقدم لهم الخدمات التي تترك نتائج إيجابية على مدى طويل دون أن تكون المساعدة مثلاً آنية فقط مقتصرة على الماديات.
- زيادة القدرة على الصمود وتجنّب النتائج السّلبية: من خلال الدعم النفسي المنظم والمنسق في وقت الكارثة.
- منع وتخفيف عواقب النزاعات.
كل ما سبق يمكن القيام به من خلال منهج التقاطعات، وذلك بفهم الأسباب، والوصول إلى طرق للتعامل معها، وتضافر جهود الجميع في إطار تحقيق تعاون مشترك لكي تمر الأزمات باختلاف أنواعها بأقل قدر من الأضرار.
هل هناك صعوبات في تطبيق منهج التقاطعات؟
بالتأكيد هناك صعوبات قائمة في هذا المنهج تتجسد بداية بأن يتحول من نظرية إلى تطبيق ولاسيما أنه قائم على العمل مع عدة جهات ولا يعتمد على جهد فردي، وما ينطوي على ذلك أيضاً من التحديات التي تواجه المنظمات الإنسانية سواء من مخاطر قد يتعرض لها أفراد هذه المنظمات أو عدم توفر القدرة على الاستجابة أو نقص في الموارد المادية والبشرية وضعف الجاهزية أو عدم وجود التعاون والتنسيق بين هذه الجهات.
لكن يسعى نهج الرابطة الثلاثية نيكسس إلى تحسين آليات التمويل وعمليات العمل وممارسات المناصرة ويشجع الناس على التعلم من بعضهم البعض والاستفادة من خبرات جميع الأطراف لكسب القوة التي تجعل الناس يتوحدون حول رؤية مشتركة والتخطيط معاً للحصول على نتائج جمعية توصل إلى حلول مستدامة…
وأخيراً
قد تكون تلك الليلة بوصلة لنتكلم بها عن مفهوم الرابطة الثلاثية انطلاقاً من حاجة وتجربة أليمة مررنا بها، ورغبة في ألا تتوقف الجهود التي بذلت وتبذل عند حد معين ينتهي ويُنسى بعد مرور الكارثة بوقت قصير بل أن يكون هناك استمرارية في العمل وخطة منظمة ومهمات موزعة وخدمات مقدمة بشكل عادل لتحقيق كل ما يساعد في الوصول إلى أهداف التنمية المستدامة…
قد ننجو نحن وننسى لكن هناك إنسان في مكان ما مازال غارق بوجعه وهذا الإنسان هو من يجب أن نعمل لأجله…