يبدو أن التاريخ ليس مجرد تسجيل للأحداث والحقائق كما هي، كيف له أن يكون ذلك ومن يكتبه هم المنتصرون بالقوة؟! كيف، والسيف يكمم الأفواه ويقيد القلم؟ أرى أنه لا يعدو كونه سردية تُبنى من ذاكرة وتأويلات وزوايا نظر مختلفة، وهنا لا أقلل من شأنه أبداً، لكن لا يجب أن ندع أن يكون تسجيله امتيازاً لفئة معينة دون غيرها، تستأثر بالرواية كيفما شاءت وقررت أين وكيف تصب مصالحها، وهنا في هذا المقال أناقش أهمية الذاكرة الجماعية التي تُكتَب بموضوعية تامة، تشمل القصص والأحداث المختلفة جميعها -قدر الإمكان- وتتضمن المظلوميات من كل الأطراف، فهي تُعد ركيزة أساسية في بناء الهوية الثقافية والوطنية لأي مجتمع، فهي عملية ديناميكية ومعقدة تُصاغ وتُعاد صياغتها باستمرار، تتأثر بعوامل اجتماعية وسياسية وثقافية متعددة وتكتسب أهميتها القصوى بعد النزاع؛ حيث تتحول الذاكرة إلى ميدانِ صراعٍ حول من يمتلك حق رواية ما حدث، فكتابة السردية التاريخية ليس مجرد فعل أكاديمي، بل هو سياسي وأخلاقي عميق يحدد مسارات المصالحة، والعدالة الانتقالية، وحتى مستقبل المجتمعات الخارجة من الحروب.
إضاءة في مفهوم صناعة الذاكرة
تشير صناعة الذاكرة إلى الطرق التي يتم بها تشكيل وتفسير ونقل الأحداث التاريخية عبر الأجيال. هذه العملية لا تقتصر على المؤرخين والأكاديميين فحسب، بل تشمل أيضًا الفاعلين السياسيين، والمؤسسات التعليمية، ووسائل الإعلام، وحتى الأفراد في تفاعلاتهم اليومية، ولنعلم أنها سلاحٌ ذو حدين؛ فإما أن تكون أداة قوية لإعادة بناء المجتمعات ونهوضها، أو على النقيض، ترسخ الانقسامات.
تتضمن صناعة الذاكرة اختيار ما الذي سيتم تذكره أو نسيانه، و حتى كيف يتم تذكره؛ ففي كثيرٍ من الأحيان، تسعى الأطراف المنتصرة إلى فرض سرديتها الخاصة، والتي غالبًا ما تمجد أفعالها وتبرر انتهاكاتها وتسطر انتصاراتها، بينما يتم تهميش أو طمس روايات الأطراف المهزومة أو الضحايا نفسهم. هذا الانتقاء ليس محايدًا، بل هو ذو أهداف سياسية بامتياز، يهدف إلى تشكيل الوعي الجمعي وتوجيه المستقبل بناءً على رؤيتهم الخاصة.
سعت العديد من الدول الأوروبية على سبيل المثال، بعد الحرب العالمية الثانية إلى بناء ذاكرة جماعية تركز على المقاومة والوحدة الوطنية، مع تجاهل بعض الجوانب المظلمة من تاريخها، مثل التعاون مع الأنظمة الفاشية أو الجرائم المرتكبة. إن فهم هذه الديناميكية أمرٌ بالغ الأهمية، لأن الذاكرة المصنوعة يمكن أن تكون أساسًا لسلام هش أو لصراع مستمر؛ فعندما يتم تجاهل آلام الضحايا أو تُزور الحقائق، فإن ذلك يزرع بذور الاستياء والانتقام، مما يجعل المصالحة الحقيقية أمرًا بالغ الصعوبة. لذا، فإن النقاش حول من يمتلك حق رواية ما حدث هو في جوهره نقاش حول العدالة، والمساءلة، وإمكانية بناء مستقبل أكثر إنصافًا واستقرارًا.
نزاعُ ما بعد الحرب: من له الأحقية بالتدوين؟
لا تتوقف المعارك بانتهاء إطلاق النار، بل تنتقل إلى ساحة أخرى لا تقل ضراوة: ساحة التاريخ والذاكرة. هنا، تتصارع السرديات المختلفة، كل طرف يسعى لفرض رؤيته الخاصة للأحداث، وتبرير أفعاله، وتصوير نفسه كضحية أو بطل. هذه النزاعات حول كتابة التاريخ ليست مجرد خلافات أكاديمية حول تفسير الماضي، بل هي صراعات سياسية واجتماعية عميقة، تعكس توازنات القوى الجديدة، وتؤثر بشكل مباشر على عملية بناء السلام والمصالحة. تتجلى هذه النزاعات في عدة أشكال. فغالبًا ما تسعى الدول المنتصرة أو الأنظمة الجديدة إلى كتابة تاريخ رسمي يخدم مصالحها، ويمحو الجوانب التي قد تثير الجدل أو تكشف عن انتهاكات ارتكبتها. هذا التاريخ الرسمي يُدرس في المدارس، ويُروج له في وسائل الإعلام، ويُحتَفَى به في المناسبات الوطنية، ليصبح جزءًا لا يتجزأ من الذَاكرة الجماعية. تحاول الأطراف المهزومة أو المجموعات المهمَشة في المقابل الحفاظَ على سردياتها الخاصة، والتي غالبًا ما تكون روايات مضادة للتاريخ الرسمي، تسعى إلى كشف الحقائق المخفية، وتوثيق المعاناة، والمطالبة بالعدالة.
تُعد تجارب دول مثل البوسنة والهرسك، ورواندا، وجنوب أفريقيا، أمثلة صارخة على هذه النزاعات. ففي البوسنة، لا يزال هناك تباين كبير في كيفية تذكر الحرب وتفسيرها بين المجموعات العرقية المختلفة، مما يعيق عملية المصالحة الوطنية. وفي رواندا، سعت الحكومة إلى بناء ذاكرةٍ موحدةٍ تركز على الإبادة الجماعية، مع التركيز على الوحدة الوطنية وتجاوز الانقسامات العرقية، بينما لا تزال هناك تحديات في التعامل مع الروايات المختلفة للأحداث. أما في جنوب أفريقيا، فقد لعبت لجان الحقيقة والمصالحة دورًا مهمًا في كشف الحقائق وتوثيق الانتهاكات، لكن الصراع حول تفسير الماضي لا يزال قائمًا.
إن هذه النزاعات حول كتابة التاريخ تُظهر أن الذاكرة ليست ثابتة أو محايدة، بل هي مجال للتفاوض والتأويل. ومن يمتلك القدرة على تشكيل هذه الذاكرة يمتلك قوة هائلة في تحديد مستقبل المجتمع، سواء كان ذلك نحو المصالحة والتعايش، أو نحو استمرار الانقسام والعداء. لذا، فإن فهم هذه الديناميكيات أمر حاسم لأي محاولة جادة لبناء سلام مستدام في مجتمعات ما بعد الحرب.
أخلاقيات صناعة الذاكرة وسياساتها

يَطرَحُ السؤال حول من يمتلك حق الرواية تحدياتٍ كبيرة تتعلق بالإنصاف والاعتراف، فإذا كانت السردية التاريخية الرسمية تتجاهل أو تشوه معاناة فئة معينة من الضحايا، فإن ذلك يعد إنكارًا لحقوقهم الأساسية في الاعتراف بالظلم الذي لحق بهم. هذا التجاهل يمكن أن يؤدي إلى استمرار الشعور بالغبن والظلم، مما يعيق أي محاولة حقيقية للمصالحة. ولابد أن أذكر بأن العدالة لا تقتصر على العقاب القانوني للجناة، بل تشمل أيضًا العدالة السردية، أي إتاحة الفرصة لجميع الأطراف لرواية قصصهم وتجاربهم، وضمان أن هذه الروايات تُسمع وتُحترم، فإعطاء الصوت للمهمشين والضحايا والفئات الهشة هو خطوة أساسية نحو جبر الضرر وبناء الثقة في مجتمعات ما بعد النزاع.
أما من الناحية السياسية، فإن التحكم في الذاكرة التاريخية يُعد أداةً قويةً في يد السلطة. فالسرديات التاريخية يمكن أن تُستخدم لتعزيز الشرعية السياسية للنظام الحاكم، أو لتبرير سياساته، أو حتى لقمع المعارضة. على سبيل المثال، قد تسعى الأنظمة الاستبدادية إلى فرض سردية تاريخية موحدة تمجد قادتها وتُخفي انتهاكاتها، مما يساهم في ترسيخ سلطتها وتقويض أي محاولة للمساءلة. في المقابل، يمكن أن تُستخدم الذاكرة التاريخية كأداةٍ للمقاومة والتغيير، حيث تسعى الحركات الاجتماعية والمدنية إلى تحدي السرديات الرسمية وكشف الحقائق المخفية، مما يساهم في تعزيز الديمقراطية والشفافية.
إن التلاعب بالذاكرة التاريخية يمكن أن يؤدي إلى نتائج وخيمة على المدى الطويل، حيث يزرع بذور الانقسام والعداء بين الأجيال؛ فعندما يتم تعليم الأجيال الجديدة تاريخًا مشوهًا أو منقوصًا، فإن ذلك يحرمهم من فهم كامل لتعقيدات الماضي، ويجعلهم عُرضةً للتلاعب السياسي. لذا، فإن النقاش حول من يمتلك حق رواية ما حدث هو في جوهره نقاش حول مستقبل المجتمعات، وقدرتها على التعلم من أخطاء الماضي، وبناء مستقبل أكثر عدلاً واستقرارًا للجميع.
نحو رواية متعددة ومتوازنة
صناعة الذاكرة بعد الحروب هي عملية معقدة تتجاوز السرد التاريخي البسيط إلى مجال الصراع السياسي والهوياتي. لا توجد رواية واحدة محايدة أو بريئة، بل هناك روايات متعددة تتنافس على الشرعية والهيمنة لتحقيق مصالحة حقيقية، يجب الاعتراف بهذا التعدد والتنافس، والعمل على إفساح المجال لجميع الأصوات، خاصة تلك المهمشة والضحية. كما يجب خلق رواية متوازنة تحترم الحقائق التاريخية من ناحية، وتأخذ بعين الاعتبار المشاعر والذكريات الجماعية من ناحية أخرى الذاكرة الجماعية ليست مجرد استعادة للماضي، بل هي أيضًا بناء للمستقبل؛ إذ أن كيفية تذكرنا للحروب والصراعات ستشكل إلى حد كبير هويتنا المشتركة وإمكانية عيشنا المشترك في قرارٍ وسلام.