الهوية لا تؤسس أو تعاش في عزلة، وإنّما بالتفاعل مع الجماعات الاجتماعية، حيث يخضع محتوى النَّحن إلى تصوّر الآخر والتفاعل معه. وتكمن أهمية الهوية كمفهوم في كونه يشكل نقطة التقاء بين ما هو نفسي واجتماعي وثقافي، حيث يرتبط بمفاهيم اجتماعية، تحدد من نحن من حيث الأدوار التي لدينا، أو المجموعات أو الفئات الاجتماعية التي ننتمي إليها، أو الخصائص الفريدة التي تجعلنا مختلفين عن الآخرين، كما يرتبط ارتباطاً عضوياً بمفاهيم نفسية مثل الذات والإحساس بالذات والإدراك والعواطف والاتجاهات… إلخ.
سوف نستعرض في هذا المقال أنواع الهويات وخصائصها، وكيف أنّها توفر الصلات بين الأفراد ومجتمعهم، وما هي أهمية التنوع والاختلاف كمصدر للغنى والإثراء في المجتمع.
مفهوم الهوية:
وإذا أردنا تعريف الهُوِيَّةُ: نجد أنَّه مصطلح يستخدم لوصف مفهوم الشخص وتعبيره عن فرديته وعلاقته مع الجماعات (كالهوية الدينية أو الوطنية أو العرقية…). ويستخدم المصطلح في علم الاجتماع وعلم النفس، وتلتفت إليه الأنظار بشكل كبير في علم النفس الاجتماعي. كلمة «هوية» منسوبة إلى الضمير «هُوَ»(1). ومصطلح الهوية ليس حديث النشأة كما يظن البعض، فجذوره ضاربة في تاريخ الفلسفة اليونانية.
و لا جدال في أنَّ مفهوم الهَوية يُعد من بين المفاهيم التي تتقاطع عندها العديد من التخصصات، فهو منظومة متكاملة من المعطيات النفسية والمادية والمعنوية والاجتماعية، تنطوي على نسق المعلومات أو العمليات المعرفية أو التكامل المعرفي. والهوية ليست أمراً ثابتاً إلى حد ما، لكنها سيرورة ديناميكية، فهي تشمل الطريقة التي نتعامل بها فيما بيننا، عندما نكون في حالة تفاعل مع العناصر الإنسانية واللاإنسانية.
أنواع الهوية
ويمكننا التمييز بين نوعين رئيسين للهوية هما:
– الهوية الشخصية (إدراك الذات):
(2)وهي إدراك الفرد نفسياً لذاته ولكنه أخذ يتسع تدريجياً داخل العلوم الاجتماعية بحيث أصبح يستخدم للتعبير عن الهوية الثقافية والهوية العرقية السلالية، ولكنها كلها مصطلحات تشير إلى توحد الذات مع وضع اجتماعي معين أو تراث ثقافي معين أو جماعة سلالة.
وهي جهد للذهاب نحو الآخر لاكتساب بطانة الذات، وعودة من الآخر نحو الذات لإثبات وجودها المتميز. ولقد عرّفها ” تاب” *1985: “بأنَّ الهوية الفردية هي المسافة الي يقطعها الفرد بين محاولة التميز عن الآخرين واضطراره للتطابق معهم، إنّما جهد دائم لتوحيد آليات الذات وانسجامها الداخلي تبطل ضرورات قوالب الثقافة التي يعيشها الفرد والمجتمع الذي نشأ فيه، ذلك الإبطال نفسه هو الذي يدفعه لتحديد تمیزه ورسم حدود هويته الفردية، وتتواصل عملية الاثبات والأبطال والعودة إلى الإثبات مدى الحياة”.(3)
حيث أصبح مفهوم الهوية الشخصية يستخدم للتعبير عن الهوية الاجتماعية والهوية الثقافية والعرقية، كلها مصطلحات تشير إلى توحد الذات مع وضع اجتماعي معين.
*بيير تاب “Pierre Tap” فرنسي مواليد: 06/11/1938 حاصل على دكتوراه في علم النفس (1981 Paris Nanterre) أستاذ فخري بجامعة تولوز لو ميريل، ومحاضر في جامعة أنجيه الكاثوليكية. أستاذ في المعهد العالي لعلم النفس التطبيقي في لشبونة، ومدير الأبحاث في المركز الأوروبي للتحقيق في السلوكيات والمؤسسات (CEICI)، مؤسسة بيسايا باريتو (كويمبرا ، البرتغال).
– الهوية الاجتماعية: (هناك هويات مختلفة ومتنوعة وقد يوجد بينها أجزاء مشتركة)
والهوية الاجتماعية للفرد هي مجموع انتماءاته لمنظومته الاجتماعية كانتمائه إلى طبقة، أو لغة، أودين، أو عادات،، أو جنسية، … الخ. وهي تتيح للفرد التعرف على نفسه من خلال المنظومة الاجتماعية المنتمي إليها، وتمكن المجتمع من التعرف عليه.
ويتقارب مدلول الهوية الاجتماعية مع مدلول الهوية الثقافية، بل هناك دراسات لا تفرق بين المفهومين وفي شأن الهوية الاجتماعية يقول بارث F.Parthe 1969 أنَّها مزودة بفاعلية اجتماعية، وهي في رأيه ظاهرة مركزية في نظام العلاقات الاجتماعية وتنظيم التبادلات في كل مجالات الحياة، ففي تحديدها، لا يتطلب الأمر جرد كل سماتها الثقافية، وإنَّما التعرف على ما تستخدمه تلك الجماعة من سمات دون الأخرى مما يبرز تميزها بين الجماعات الأخرى، والتمايز هنا يخص بظهور هويات على حساب هويات أخرى، وهذا كله راجع لنوعية العلاقة بين الجماعات، فهي حالة بناء دائم، ودراستها لا تتم إلا من خلال التفاعلات الاجتماعية التي تُبرز بوضوح ما يسمى بالشعور بالانتماء، وذلك للتأكيد على الهوية أو رسم حدودها مع غيرها من الهويات الأخرى، التي تميز جماعات أخرى.
الهوية الجماعية قد تميز الفرد عن الآخرين أو تجمعه معهم:
إنَّ الهوية الجماعية تقتضي تصنيفاً للناس و الجماعات الاجتماعية. و تَتعدد مقاييس هذا التصنيف ما بين: السياسة، الدين، الجنس، العرق، الجنسية، الخ. وهذه كلها مقاييس مُصَنِفة، إلا أنَّ تصنيف الناس و الجماعات لا يكون بالضرورة حصرياً و لا أحادياً.
فقد تتأسس جماعة اجتماعية ما على هوية ثقافية، و هذا يعني أنَّ أعضاء هذه الجماعة يتقاسمون عناصر ثقافية موضوعية: مثل اللغة، الدين، العادات، الخ. تبالغ هذه المقاربة الماهيتية” “essentialiste* بشأن الأسس الموضوعية للهوية الجماعية ولا تعير أسسها الذاتية أيَّة أهمية.
والأشخاص الذين ينتمون إلى هوية جماعية، وفق هذا التصور، لا يتقاسمون حتما ثقافة مشتركة و لا نفسية مشتركة، لكنهم يلتقون حول بعض الشعارات، الأفكار و الرموز الكفيلة بإبراز الاختلاف الثقافيBarth, 1969). و لذلك لا تكون الهوية الجماعية مبنية على العناصر المشتركة الموضوعية، و إنما حسب الاعتقاد الذاتي في بعض العناصر التي تعتبر مُميزة؛ و حتى الوجود “الحقيقي” للسمات الثقافية التي يقال أنَّها أساس الهوية الجماعية، ليس ضرورياً؛ و يكفي أن يؤمن بعض الأشخاص المعنيين بذلك.
الهوية أجزاء منها ثابتة وأجزاء متغيرة:
في القرن السادس قبل الميلاد، كتب هيرقليطس: ” إنَّ المرء لا يستطيع أن يستحم في ماء النهر الواحد مرتين، لأنَّ مياهاً جديدة تجري من حوله أبداً (على أسعد وطفة، 2010، ص 46) ويعني ذلك أنه من المستحيل في الكون وجود شيئان متطابقان.
الهوية ليست ثابتة على مر الزمن، فهي تتغير بمرور الوقت وقد تتغير من موقف إلى آخر، خلال فترات زمنية قصيرة جداً، وهي ليست شيئاً يمتلكه شخص ما، إنّما يتم إنشاؤه في تفاعل الناس، وبالتالي يتم صنعه وتجديده باستمرار. حيث لا تخضع الهوية لسيطرة كيان واحد، وبالتالي لا تخضع للتعريف من قبل أي كيان واحد (حتى الشخص الذي يدعي الهوية).
والهوية من وجهة نظر جون لوك تكمن في ذلك الوعي الكامل أو المعرفة المصاحبة لإحساساتنا التي تجعل الشخص هو نفسه عبر الزمان والمكان أي هي ذلك الشعور الذي يجعل الإنسان يدرك ذاته، ويبني معرفته بذاته على نحو قائم، فيكون الشخص هو-هو، رغم كل ما يتعرض له من تغيرات وتهديدات داخلية أو خارجية.
التنوع والاختلاف بين الأنا والآخر:
ويرى الأخصائيون الاجتماعيون أنَّ التنوع يميز ويشكل التجربة الإنسانية، وهو أمر بالغ الأهمية لتشكيل الهوية. وقد يكون التنوع متعدد الأبعاد ويتضمن العرق، والإعاقة، والطبقة، والوضع الاقتصادي، والعمر، والجنس، والإيمان والمعتقد، وتقاطع هذه الخصائص وغيرها. و بسبب هذا الاختلاف وإدراكه، قد تشمل تجربة حياة الشخص القمع والتهميش والاغتراب، أو تمنحه الامتياز والسلطة والإشادة.
ويشير التنوع الثقافي إلى تقدّم المجتمع وانفتاحه، الأمر الذي يثري المعرفة الفردية والمجتمعية، إذ يدرك الإنسان غيرَه، فيعي الحقائق المختلفة من حوله، ويبدأ في التفسير والبحث والتّقصي؛ ما يمكّنه من الارتقاء بتجربته الإنسانية في مختلف المجالات. وهذا الوعي كما وصفه أفلاطون: إيمانٌ مبرّر. فهو نتاج هذه التجربة الواقعية التي تضمن للمرء التعرف على العديد من الاحتمالات، ومختلف المعارف والمهارات والخبرات. والحوار الثقافي والتواصل الفكري بين مختلف المكونات والتعبيرات، لا يهدد الاستقرار الاجتماعي، وإنما يثريه ويزيده صلابة وتماسكاً.
وبذلك نجد أنَّ مفهوم الهوية حواراً تأملياً، يتضمن وعياً وإحساساً وشعوراً مر كّزًا من الفرد تجاه الآخر وتجاه مجتمعه، لتقوية الروابط الاجتماعية بين مختلف الفئات، والتفاعل معها، وتجاوز تحديات الفرقة والتعصب الفكري، المذهبي واللغوي للصالح العام.