لطالما كانت تخبرني صديقتي، عندما أقوم بتصغير أي إنجاز أقوم به ومقارنته مع إنجازات الآخرين، عن فروق موجودة بيني وبين أولئك الآخرين، أموراً فاضلت فيما بيننا وميّزتنا عن بعضنا البعض، لتُسهّل في بعض المطارح الأمر أو تُصعّبه فتجعل من الأمر وبعملية مقارنة حسابية بسيطة غير قابل للتساوي، من دعم معنوي أو مادي أو سلطوي جعلت ما وجدته صعباً وواجهته أمراً يسيراً بالنسبة لهم.
أخبرتني عن الخلفية الثقافية والدينية والعرقية والاقتصادية لعائلاتهم وعن مناطق سكنهم وكل ما يندرج على ذلك من اختلاف وفروق، وأخبرتني أنه من الظلم المقارنة لأنه لا وجود للمساواة فيما بيننا.
حينها لم أكن أعلم شيئاً عن “التقاطعية” التي ظهرت بادئ الأمر في نضالات الحركة النسوية؛ لتشرح وتوضح أنه لا يكفي للإنسان أن يكون امرأة لكي يتشارك نفس التجربة الحياتية مع باقي النساء بشكل متماثل، وأن هناك تقاطع لأنظمة مختلفة في اضطهاد الأشخاص؛ فمن خلال فهمنا للتقاطعية سنتمكن من فهم الظلم الحاصل بدرجاته المتعددة والمختلفة وهو ما سيفسر لنا اختلاف تجاربنا الشخصية حتى لو كنا جميعنا نساءً، فما تعانيه امرأة عاملة مختلف تماماً عما تواجهه امرأة غير مستقلة مادياً، كذلك الأمر لو كانت هذه المرأة تنتمي لأكثرية في مجتمع ما فهذا الأمر سيحميها من عنف يستهدف امرأة أخرى لأنها تنتمي لأقلية… وتطول المقارنة وتختلف باجتماع عدّة ظروف وعوامل وتشابكها وتقاطعها سويةً إما لتُخفّف أو تُضاعف من حدّة المعاناة، على مبدأ “جرّب أن تقف مكاني لتعرف موقفي” وهذا جوهر الأمر الذي تكونت وانبثقت منه التقاطعية.
تاريخ التقاطعية
كيف عرفت النسويات التقاطعية؟
بدأت القصةُ في الولايات المتحدة، عندما لاحظت النساء السود أن تجاربهن تختلف اختلافا جذرياً عن تجارب النساء البيض، وأن حركات النسوية التي أسموها ب “النسوية البيضاء” لا تمثلهن ولا تعبر عنهن، مشككين بفكرة أن الجندر هو العامل الأول الذي يُحدّد مصير المرأة وإنما للعرق دور أيضاً في هذا الأمر، فلطالما وُصِفت النساء البيض بجمالهن ورقتهن وحساسيتهن وهو ما لم يكن يُطبق على النساء السود حسب المعايير المجتمعية آنذاك، ومع الزمن تطوّر هذا الفكر -التقاطعي- وتعمّق لتدرك النساء بشكل أكبر أن أشكال الظلم التي تُواجهها النساء البيض من الطبقة المتوسطة تختلف عن تلك التي تُواجهها النساء السود أو الفقيرات أو ذوات الإعاقة، فلم يعد الأمر يقتصر على العرق بل وسع ليشمل عدة عوامل أخرى يجب مراعاتها لفهم الظلم وما تواجهه النساء المختلفات باختلاف ظروفهن.
تم صياغة المصطلح رسمياً عام 1989 من قبل الباحثة النسوية الأمريكية وأستاذة القانون في جامعة كولومبيا “كيمبرلي ويليامز كرينشو” في ورقة بحثية نشرتها جامعة شيكاغو تشرح وتؤكد أن الأمريكيات ذوات الأصول الأفريقية يواجهن في مؤسسات العمل تمييزاً على أساس النوع والعرق معاً، بعنوان “إلغاء تهميش التقاطع بين العرق والجنس: نقد نسوي أسود للعقيدة المناهضة للتمييز والنظرية النسوية والسياسات المناهضة للعنصرية”.
استندت “كرينشي” في بحثها على ثلاث قضايا قانونية حركتها نساء من أصول أفريقية ضد مؤسسات عملهن يسبب تعرضهن للتمييز في التوظيف أو في شغل مواقع محددة أو في الترقيات، لتشرح كيف تعاني النساء ذوات البشرة السمراء من تمييز أكبر من التحيز الجنسي، هذه القضايا هي: قضية عُرِفت باسم ديغرافنريد ضد شركة السيارات جينرال موتورز (العام 1976)، وقضية مور ضد شركة هيوز للمروحيات (العام 1982)، وقضية باين ضد شركة الرعاية الصحية ترافينول (العام 1976). إلا أنّ القضاء الأمريكي حينها لم يعترف بما تواجهنه هذه السيدات من تمييز بسبب انتمائهن لأقلية.
"ذاك الرجل هناك يقول أن النساء بحاجة للمساعدة ليتمكنّ من ركوب العربات، وأن يُحملن للمرور من فوق الحفر، وأن يحصلن دائماً على أفضل الأماكن أينما تواجدن. لكن لا يقوم أي شخص بمساعدتي أثناء ركوبي العربة أو مروري من فوق حفرة طينية، ولم يمنحني أحدهم أبداً أفضل الأماكن. ومع ذلك، ألستُ امرأة؟ فلتنظروا إلي، انظروا إلى ذراعي، لقد حرثت وزرعت وحصدت، ولم يشرف عليّ أي من الرجال.. ألستُ امرأة؟ أنا أستطيع أن أعمل وأن آكل الطعام -عندما أستطيع الحصول عليهما- تماماً كالرجل، حتى أنني يمكنني تحمّل ضربات السوط.. ألستُ امرأة إذاً؟"
الناشطة الأمريكية من أصل أفريقي سوجورنر تروث Tweet
أهمية النظرية التقاطعية، فهم العالم بشكل أفضل
تخيل أنك تلعب لعبة البزل- تركيب الصور، حيث يمتلك كل شخص مجموعة من القطع التي تُمثّل هويته، مثل العرق والجنس والعمر والإعاقة وغيرها، ولا يُمكن لهذه القطع أن تتواجد بمعزل عن بعضها البعض، بل تُشكّل صورةً أكبر لتُكوّن تجربة كل شخص الخاصة والفريدة.
ومن خلال “التقاطعية” يُمكننا التعرّف على هذه الصورة الأكبر، وعن كيفية تداخل وترابط هذه القطع والتأثير على كيفية تعاملنا مع العالم؛ فمن أجل فهم تجربة التمييز لا يجب علينا التركيز على قطعة واحدة فقط مثل “العرق” أو “الجنس” بل يجب دراسة كلّ القطع معاً لِفهم الرسالة بشكلٍ كامل.
لنبسّط الأمر، تُساعدنا التقاطعية على فهم تعقيدات التمييز لندرك الظروف التي قد تُجبر الأفراد على التعرّض للمعاملة غير العادلة، وتحذرنا من تبسيط قضايا اللا مساواة وعدم العدالة. فلا يمكن حل مشكلة التمييز فقط من خلال التركيز على قطعة واحدة مثل العرق أو الجنس، بل يُصبح من الضروري معالجة كل القطع والتفاعل بينها لفهم جوهر المشكلة.
على سبيل المثال فجوة الأجور بين الجنسين، يبلغ الفارق الحالي في الأجور بين الجنسين لجميع الموظفين 14.9٪، وتتسع هذه الفجوة بشكل ملحوظ بالنسبة للنساء من الأقليات العرقية والنساء فوق سن الخمسين والمعاقات والأمهات، حيث أظهر تقرير صادر عن جمعية فاوست لعام 2023 كيف أن تقاطع التمييز على أساس الجنس والعنصرية وعقوبة الأمومة يؤثر بشكل كبير على الدخل مدى الحياة للأمهات السود والمنتميات للأقليات.
كما تُساعد التقاطعية في سوق العمل، الشركات على فهم القوى العاملة المتنوعة وإيجاد طرق أكثر فعالية للإشراك والإدماج، وتُشجع عدة شركات كبيرة مثل Procter & Gamble وMcKinsey & Company وDeloitte على تبني نظرية التقاطعية في استراتيجيات وسياسات الموارد البشرية لديها، حيث تُعطيهم هذه المُقاربة قدرة أفضل على فهم احتياجات الموظفين و تقديم برامج و سياسات أكثر عدلاً و شمولاً.
الجدل حول التقاطعية:
بينما تُشجع بعض المنظمات على تبني النظرية التقاطعية، فإن هذه الجهود لا تخلو من الجدل، حيث يتم انتقاد هذه الجهود من قبل بعض النقاد لأنهم يرون أنها تُشجع على التمييز وتُساهم في تفكيك الوحدة الوطنية.
ففي الفكر الماركسي يتم اعتبار التقاطعية كأمر مُشتت يُضعف التركيز على الصراع الطبقي، ويُقلّل من أهمية ودور الطبقة العاملة في هذا الصراع من خلال التركيز على هويات مُتعددة بدلاً من التركيز على الصراع الأساسي ضد الرأسمالية، كما أنه لا يجد أي حلول واقعية للتقاطعية لِمشاكل الاضطهاد، بل تُركز على تقديم التشخيص من خلال فهم هويات مُتعددة.
ولكن مهما اختلفت الآراء، هذا لا يُلغي أهمية النهج التقاطعي، الذي لم يقتصرِ على فهم الظلم فحسب، بل ساعد على تشكيل حركات عدالة اجتماعية، مُنيراً الطريق لفهم أعمق للتجارب المتعددة التي يواجهها الناس في المجتمعات المُختلفة.