الكراهية هي ذلك الانغماس اللاعقلاني بالرفض والعداء والمقت للآخر، كالشعور الذي يتحدث عنه المثل الشعبي الشائع “عدوّ جدّك لا يودّك”.ما التخيل الذي كان يرافق صورة عدوّ جدّك لديك؟ أكان هو المحتل الذي سمعتَ عنه في الموروث والرواية والتاريخ، أم أنّه هو سرّ مُغَوِّلٌ يمكنه اعتراضك في أي يوم وأي مصادفة أثناء سيرك في الطريق أو في المدرسة والجامعة والعمل؟
قد لا يكون السرّ المغوّل هو ذاته عدوّ جدك، لكنه لطالما كان بالنسبة لك خطراً محاطاً بالريبة والشك، ومصدراً للقلق والخوف، ومدعاة للحيطة والحذر.
هل سألت نفسك أيضاً لم أنت أيضاً بدورك لا تودّه لا وبل تخافه؟
منذ الطفولة يسارع الطفل إلى أهله بالأسئلة عن الاختلاف ويسارع أهله إليه بالرواية التي ستكبر معه وتدمغ مسيره؛ كأنها قانون بديهي لا يستدعي الدحض لألا يبتلعه الجهل به وعنه.
تقول ايلزي براندز كيريس الأمين المساعد لحقوق الإنسان في ذكرى اليوم الدولي الأول لمكافحة خطاب الكراهية: “إن أحد التحديات التي تواجهنا في صدد مكافحة خطاب الكراهية هو الروايات التاريخية الخلافية التي تروج لها المجتمعات المختلفة، حيث يمكن لمثل هذه الروايات أن تغذي خطاب الكراهية، وأن تثير المظالم وتؤدي إلى تفاقم التوترات العميقة بين المجتمعات، حيث تعتبر الأمم المتحدة أن وجود خطاب الكراهية هو أحد أهم مؤشرات الإنذار المبكر للعنف.”
كيف يمكن للتربية أن تكون أداة قوية ومثلى لإحاطة وتقويض خطاب الكراهية؟
يتحدث إدغار موران وهو فيلسوف و عالم اجتماع فرنسي معاصر في كتابه تربية المستقبل عن “لا يقينية المعرفة” أي أن المعرفة هي مغامرة لا يقينية تتضمن في ذاتها إمكانية الوهم والخطأ، أي أن ما نعتقد أننا نعرفه هو معرض دائماً لأن يكون وهماً أو خطأً، وهذا ما لا يؤمن به حملة خطاب الكراهية وناشروه.
يقول موران :يمكننا أن نعثر داخل اليقينيات المذهبية والمتشدّدة على أسوأ الأوهام، والوعي بالطابع اللايقيني للمعرفة يشكل فرصة لبلوغ معرفة ملائمة وهذا ما يتطلب إخضاع المعرفة للفحص والتحقق كما يتطلب عزل الإطار من السياق ومعالجة عناصره.
أي إنه علينا سوق معارفنا الموروثة والمسموعة من الخطابات إلى حيز التجربة التي قد تبطلها وتحبط محاولةً أو أكثر لجرّنا إلى رفض الآخر وحصره في قالب.
إن اللاتفاههم واللا فهم هو العملة الرائجة في تسويق خطاب الكراهية، والتربية من أجل التعليم تختلف عن التربية من أجل إكساب الفهم الإنساني، لذا نجد أن التربية بهدف إكساب المتعلم فهماً لشرطه الإنساني هي أداة قوية للحد من انتشار خطاب الكراهية.
يشير موران أيضاً إلى أن الفهم هو سيرورة مكونة من محاولة معرفة الغير، وبما أن الفهم مسألة ذاتية فهي تقتضي الانفتاح والتعاطف والأريحية بالضرورة. فلا يكون الفهم بمستواه العقلي (الموضوعي) كافياً بل عليه أن يتعداه إلى الفهم الإنساني الذي يحيلنا إلى معرفة ذواتنا. فأن أرى فتاة في مقتبل العمر تبيع الورود في الشارع لتساعد ربما أهلها الذين نزحوا من مناطق التوتر لا يحيلني فقط إلى فهم موضوعي وعقلاني لحالة الفقر، بل يحيلني أيضاً إلى ذاتي والصعوبات التي عانيتها للتمكن من إنهاء دراستي وأنا من غير معيل.
وللفهم حسب موران عوائق عديدة كالجهل بطقوس وعادات واعتقادات غير المتعلقة ببيئاتهم وثقافتهم أو تربيتهم المغايرة وعوائق داخلية لا تختزل فقط باللامبالاة بفهم الآخر بل تتمركز في النزعة حول الذات، العرق، المجتمع.
حيث تجعل النزعة حول الذات التزكية حصراً للذات واعتبار الآخر مصدر كل الشرور، وتقود إلى التعامل مع أفعال الغير وأقواله بطريقة حادة و رافضة (وهذا ما يشكل جوهر خطاب الكراهية) كما تقود إلى اختيار غير اللائق من أقوال وأفعال الغير وإقصاء الجيد منها.
أما التمركز حول العرق والمجتمع بحسب موران يؤدي إلى أنواع مختلفة من كره الآخر المختلف قد تؤدي إلى نزع الصفة الإنسانية عنه حتى. وقد نُفاجأ أن الفهم بمستوييه العقلي والإنساني لا يحقق دوره في دعم التربية والتعليم لتقويض خطاب الكراهية ما لم يقترن بأخلاق الفهم.
فما هي أخلاق الفهم؟
ما الرواية التي يمكن إخبارها للأطفال الذين قدموا إلى الحياة في فترات الحروب وهم بلا آباء؟
لا شك أن الرواية سوف تنطوي على جرح قادم وألم وربما رغبة بالثأر يصعب التعامل معها وتهدئتها.
تبرز هنا أخلاق الفهم كما عرفها موران أنها”هي فن العيش الذي يتطلب منا القدرة على الفهم بشكل نزيه، ويتطلب مجهوداً كبيراً لأننا لا يمكن أن ننتظر من الآخر أن يعاملنا بالمثل، ففهم المتعصب الذي هو عاجز عن فهمنا يعني فهم جذور وإشكاليات التعصب الإنساني، وبالتالي فهم لماذا وكيف نحقد أو نحتقر”. إن أخلاق الفهم حسب موران تتطلب منا فهم “عدم الفهم” كما تتطلب أن نحاجج ونفنّد عوضاً عن عزل الآخرين ولعنهم، وتتطلب تلك الأخلاق أن نجنب الإدانة القطعية غير القابلة لإعادة النظر.
كيف يمكن أن يلعب التيسير دوراً باعتباره “أداة ” لاحتواء “خطاب الكراهية”؟
إن تعلم مهارات التفكير النقدي وغرس قيم الاحترام وقبول الآخر التي يعمل على تفعيلها أسلوب التيسير هي أمور كفيلة بجعله أداة فعالة في احتواء خطاب الكراهية . وذلك من خلال تطوير الوعي والمهارات كما هو الحال في برنامج أفلاتين وبرامج مبادرون الأخرى المعتمدة على التيسير والتي تساعد المشارك على فهم ذاته ونقاط ضعفه وسياقه،وتمكنه في نفس الوقت من فهم الآخرين وقبول أخطائهم ومسامحتهم. بهذا يلعب التيسير دوراً هاماً في التخفيف من حدة خطاب الكراهية واحتوائه في المجموعات التي يطبق فيها، لأنه يمنح المشاركين مَساحتهم الآمنة ويمكّنهم من فهم الآخر انطلاقاً من فهمهم لذواتهم. ممّا يؤكد لنا أنه لا يمكن الاستغناء عن التيسير في سياق العمل المجتمعي الذي يردف العمل التربوي، ويوضح أيضاً الدور الكبير الذي تستطيع المؤسسات الاجتماعية القيام به من خلال غرس قيم التسامح وقبول الآخر بهدف تقويض هذا الخطاب الجارح والمهدد لسلام وسلامة المجتمع.