لم أستطع أن أتمالك نفسي حينها، شعرت بأنه يسلب جزء من حقي وحق الآخرين الواقفين معي في نفس ذلك الدور لاستلام الحوالة المالية، سكت الجميع ولم يعترض أحد، ذهبتُ إلى الموظف المسؤول وطلبت منه أن يتصرف ويطلب منه أن يُلزمه بالدور ويُرجعه إلى آخر الصف، حيث أنه لا يحق له الاستخفاف بوقتنا وانتظارنا، ما الذي يميزه عنا حتى لا يقف في الدور؟ هل وقته أثمن من وقتنا؟ هل له أجنحة تخوّله أن يقفز فوقنا ويصل للدور الأول بهذه السرعة؟ هل هو مواطن نخب أول ونحن مواطنون تقليد؟
جميعنا بشكل أو بآخر تعرض لمثل هذه المواقف بسياقات أو طرق مختلفة وشعر بالضيق والانزعاج بسبب التمييز الذي تعرض له، بسبب غياب المساواة -التي نستحقها- بيننا وبين الآخرين.
ماذا تعني المساواة؟
“تعني أن جميع المواطنين، أياً كانت أصولهم القومية أو ديانتهم، أو طوائفهم، أو انتماءاتهم المناطقية أو السياسية أو جنسهم، يجب أن يُعاملوا بنفس الدرجة من الكرامة، وأن يتمتعوا بالحقوق ذاتها، ويخضعوا للواجبات ذاتها.”
المساواة قيمة لا تتجزأ، لا يمكن أن نرشها كنكهة عندما نحتاج أن نمنح طبختنا بُعداً متحضراً ومدنياً لجلب الثقة وتلميع الصورة، وأن نسقطها بطبخات أخرى حيثما تشتهي نفوسنا وتتماشى مصالحنا الشخصية مع التمييز أو مع أحد انتماءاتنا الضيقة.
ويمكن أن نعرّف المساواة بنقيضها أيضاً، أي التمييز المتمثل بالمحسوبية، وأخذ الفرص والامتيازات بناءً على انتماء أو شكل أو نوع اجتماعي ما، الكيل بمكيالين، الحرمان من الوصول للموارد والفرص والمعلومات والحقوق الأساسية، والتفاوت في منح الأجور والامتيازات، والعديد من الأشكال الأخرى.
أشكال المساواة وتطبيقها
أولاً: أشكال المساواة
لا تتوقف قضايا المساواة على حادثة مثل الوقف في الدور أو تجاوزه، بل تأخذ أشكال مختلفة ومتعددة:
- المساواة الأخلاقية: قد تكون أهم أشكال المساواة والتي تعني احترام إنسانية وكرامة وحرية جميع المواطنين.
- المساواة القانونية: والتي تعني أن جميع المواطنين متساوون في القضاء وأمام القضاء، فليس للقانون أن يحمل تمييزاً في نصه، وليس لفرد أو لجماعة أي امتياز على فرد آخر أو جماعة أخرى.
- المساواة الاجتماعية: وغايتها المساواة في شروط العيش، فلا فضل لمواطن على آخر ولا لجماعة على أخرى.
- المساواة السياسية: والتي تعني المساواة بين جميع الأفراد والجماعات في الحق بالمشاركة والتمثيل السياسي والتي عليها في نفس الوقت نفس الواجبات والالتزامات.
- مساواة اقتصادية: وغايتها المساواة في تمتع الجميع بحق الانتفاع ذاته وبالمساهمة في الأعباء بحسب القدرات (مبدأ الضريبة التصاعدية).
ثانياً: تطبيق المساواة
ولكي تتحقق أشكال المساواة السابقة لا بد من وجود آليات عملية في مجالات عديدة منها المساواة أمام القانون وفي القانون، حيث لا يحق للمُشرِّع أن يضع قوانين تحتوي في نصها أو تطبيقها على شيء من التمييز في حين أن القانون انطلق من مبدأ المساواة بين الأفراد، أيضاً المساواة أمام القضاء حيث أنه لجميع المواطنين الحق في التقاضي على قدم المساواة أمام محاكم واحدة دون أي تمييز على أساس الانتماء أو العرق أو العقيدة أو الجنس وإن المساواة أمام القضاء تطلب تطبيق بعض المبادئ الأساسية وهي وحدة القضاء والمساواة أمام التشريعات والعقوبات ومجانية القضاء.
وبما أننا نتكلم من أرضية مواطنية فإن المساواة أيضاً تكمن في استخدام الملكية العامة سواء من مرافق أو أموال عامة، والمساواة في شغل المناصب العامة التي تقوم على مبدأ تكافؤ الفرص الذي يتجاوز حقيقاً المنافسة على المناصب العامة إلى المساواة في التمثيل السياسية وتحصيل التعليم واكتساب المعرفة وممارسة الشغل والنفع واكتساب الثروة والحياة بشكل يحفظ الكرامة الإنسانية.
"إن كانت المساواة تختلف في دلالتها عن العدالة، فإنها لا يمكن أن تتحقق، في الجوهر، إلا إذا كانت العدالة هدفاً لها."
قضايا المرأة والمساواة
كأشخاص نعيش في هذا الشرق، لا يمكن أن نتطرق لقضية المساواة ولا نتذكر قضايا المرأة، كمثال من أوضح الأمثلة عن غياب شبه كامل للمساواة في مجتمعاتنا، الأرقام مخيفة، والموروث أيضاً، أحد الأمثلة الشعبية في منطقتنا يقول: “ابن البنت عدى وفات، ابن الابن عدى وبات”، أي أن الحفيد من ابن ذكر يمر في بيت جده ويبقى، يتقاسم الملكية والانتماء لأسرة الأب، ويبقى ويدوم، أما الحفيد من ابنة أنثى فإنه يمر كالريح مرور الكرام، فلا يبقى ولا يدوم ولا يتشارك في أي ملكية أو انتماء لأسرة الأم، فهو ابن بنت وليس ابن ولد!
لا تتوقف الإساءة للفتاة هنا، بل في الأمثلة دعوة إلى الاستغلال أيضاً، هذه الأمثلة التي تعاير الأرملة في المثل “جاء للأرملة جوز قالت أعور ما بينفع”، وكأن عليها القبول بأي رجل طالما مات زوجها، على اعتبار “اللي مات جوزها يا غلبها وعوزها”، “وظل رجل ولا ظل حيطة”، حيث من الأفضل أن ترحل المرأة قبل زوجها على اعتبار “اللي ربنا متمم سعادتها بيطلع زوجها بجنازتها”.
يقول المثل الشعبي أيضاً، “هم البنات للممات” في حين أن البنات يقُمن بأدوار القيادة والريادة في كثير من المواضع في مجتمعاتنا، وفي الكثير الكثير من الأحيان والمواضع في المجتمعات الأخرى، بالنسبة لي أتخيل همنا للممات من غير البنات، لا أعرف مجتمع مر بنزاعات وأزمات ضخمة مثل مجتمعنا، واستطاع أن يتجاوز تحدياته وينطلق لمستقبل خالٍ من الهموم دون دور رئيسي ومحوري وجوهري لبناته.
- يبلغ معدل مشاركة المرأة العربية في القوى العاملة 18.4 في المئة، وهو الأدنى في العالم مقارنة بالمتوسط العالمي الذي يبلغ 48 في المائة. وعلى النقيض من ذلك، تتجاوز معدلات مشاركة الرجل في القوى العاملة (77 في المائة) المتوسط العالمي (75 في المائة).
- تبلغ نسبة بطالة المرأة في الدول العربية 15.6 في المائة، وهي ثلاثة أضعاف المعدل العالمي.
- تَواجد النساء في المناصب الإدارية متدنٍ في المنطقة، إذ إن 11% فقط منهن يشغلن مناصب إدارية مقارنة بالمتوسط العالمي الذي يبلغ 27.1 في المائة.
- إن العمل غير المأجور في رعاية الأطفال يجعل المرأة تنفق عدداً من الساعات يزيد بنحو خمس مرات عما ينفقه الرجل في أعمال الرعاية غير المأجورة.
ماذا عن تمثيل المرأة السياسي أو وصولها لمواقع التأثير والقيادة؟ إن نسبة تمثيل المرأة اليوم في مجلس الشعب السوري يبلغ 11.02%، فلو افترضنا أن نصف المجتمع من الرجال والنصف الآخر من النساء فإن 39% من المجتمع على الهامش ولا يوجد له أي تمثيل أو صوت أو وصول!
إن التمييز الذي تتعرض له المرأة هو على سبيل المثال لا الحصر، ولأنه مثال واضح شفاف مثل شمس الظهيرة في السماء الصافية، لكنه مثال واحد فقط عن حالة واحدة من التمييز، والذي قد ينطلق من أرضيات أخرى، كالانتماء، اللون، أو الشكل، وتطول القائمة.
القيم المدنية والمساواة
تعتبر المساواة أحد المبادئ الأساسية للمواطنة، وواحدة من أهم القيم المدنية، وتكمن أهمية ارتباط المساواة بالجانب القيمي باستدامتها والقدرة الحقيقية على تحقيقها، حيث أن القيم هي الحامل الفعلي لممارساتنا وقوانيننا وإجراءاتنا، وهي الجزء الأهم من الثقافة التي نتبناها في جميع المواقف والتعاملات مع أنفسنا ومع الآخرين، ليس كافياً أبداً أن تكون القوانين والآليات معدة لتطبيق المساواة بين المواطنين على اختلافاتهم، بل يجب أن تكون المساواة كقيمة، وممارستها كثقافة عامة لدى المواطنين، حجر أساس وقاعدة يتم الانطلاق منها إلى تطبيق المساواة وجعلها جزء من حياتنا ومنظوماتنا، أي قانون أو إجراء لا يتناسب مع القيم والثقافة التي يتبناها المواطنين، يكون تطبيقه وضمان استمراره غير مضمون، وهذا يلقي على عاتقنا بعض الأسئلة التي قد تكون ثقيلة… هل نحن حقيقةً نتعامل بمساواة مع الآخرين المختلفين عنا في الإمكانات والتوجهات والانتماءات؟ هل ننظر لحقوقهم كما ننظر لحقوقنا وحقوق المتشابهين معنا؟ هل نشعر بالضيق والحرج إزاء التمييز الذي يتعرض له أولئك المختلفين عنّا؟ هل نتذكر حقوقهم عندما نطالب بحقوقنا؟ هل نرفض أن نكون جزءاً من التمييز والمحسوبية عندما نكون في موقع إعطاء الفرص واتخاذ القرارات وتوزيع الموارد؟ هل نرفض المشاركة في خطابات جماعية تقوم بالتقليل من قيمة ثقافة أو مجموعة أو نوع اجتماعي ما؟
وهنا تكمن أهمية العمل على الجانب القيمي والثقافي من قبل منظمات وجمعيات المجتمع المدني، القيم هي المحرك الرئيسي لكل ما نقوم به، ما نقبله وما نرفضه، ما ندعمه ونتبناه وما نسعى لتغييره وتحويله، وأيضاً، لا تأتي المساواة كقيمة فردية مجردة ومنعزلة، بل تشكل جزء من منظومة القيم المدنية الأخرى كالتضامن والتسامح والعدالة والحرية والأمانة والصدق، إن قيمة المساواة ليست فقط لأصحاب القرار، ومدراء التوظيف، قيمة المساواة لنا جميعاً.
يقوم البعض برفع الصوت والمناصرة من أجل أولئك الذين يتعرضون للتمييز ومن أجل تغيير السياسات والقوانين المسببة، والبعض الآخر يعمل على جعل مصادر التعليم مفتوحة ومتاحة للجميع، يعمل آخرون على تحفيز الجانب القيمي وإعادة النظر بثقافاتنا وقيمنا ومدى دعم كل منهما للمساواة، إن غياب المساواة يعزز وجود فجوات بين أفراد المجتمع، ويساعد على تصاعد المشاعر السلبية المهددة لقدرتنا على العيش المشترك بسلام، لا يتم الحديث عن المساواة من باب الرفاه، إنها حاجة ملحة وقيمة أساسية، ماذا تفعل/ين أنت من أجل ذلك؟