في خضمّ الحروب والنزاعات، حين تتصدّع المجتمعات وتتبعثر الأحلام، غالبًا ما تكون النساء في الصفوف الأولى من الألم… ولكن، ماذا لو كُنّ أيضًا في الصفوف الأولى من بناء السلام؟ لقد أثبتت السنوات الأخيرة أن إشراك النساء في عمليات السلام ليس مجرّد مسألة عدالة جندرية، بل هو ضرورة لتحقيق سلام شامل ومستدام.
ومع ذلك، تظل النساء يواجهن تحديات بنيوية وثقافية عميقة تحول دون انخراطهن الفعّال في مفاوضات السلام وصناعة القرار. يتطلب تجاوز هذه التحديات إرادة سياسية حقيقية على المستويات المحلية والوطنية والدولية، واستثمارات مستدامة، وتغييرًا ثقافيًا جذريًا في النظرة إلى دور النساء في الأمن والسلام.
السلام أساسٌ لاستقرار المجتمعات وتنميتها، لكن تحقيقه واستدامته عملية معقدة يبرز في قلبها دور النساء كفاعلات أساسيات لا غنى عن مشاركتهن الفعالة والمتساوية.
لماذا تُحدث النساء فرقًا استثنائياً في بناء السلام؟
ليس المطلوب إثبات أن النساء “يصنعنَ سلاماً أفضل”، بل ما يلزمنا هو تفكيك سبب قدرتهن على خلق نماذج مصالحةٍ لا تتكرر في أدوات الرجال. السرُّ قد يكمن في كونهن خبيراتٍ بفنون البقاء داخل المجتمعات الممزقة، مما يمنحهن بوصلةً مختلفةً تقيس نجاح السلام بمدى قدرة الأم على إرسال طفلها إلى المدرسة دون خوف، لا بعدد البنود الدستورية الموقَّعة على سبيل المثال لا الحصر.
هنّ لا يقدمنَ إجاباتٍ جاهزة، بل يطرحنَ أسئلةً تُعيد تعريف السلام نفسه: هل هو اتفاقيةٌ بين مسلحين سابقين؟ أم قدرةُ طفلٍ على تذكُّر والده دون كوابيس؟ في هذه المسافة بين التعريفين، تُولد فرادة الدور النسائي.
تشير الدراسات إلى أن إشراك النساء في مفاوضات السلام يزيد من احتمالية استدامة الاتفاقيات بنسبة تصل إلى 35%، ويُقلل من خطر فشلها بنسبة 64%. هذه الأرقام ليست مجرد بيانات جافة، بل تعكس واقعًا إنسانيًا: النساء، بحكم خبراتهن في المجتمعات، يُدخلن وجهات نظر شمولية تمسّ حياة الناس اليومية، من التعليم والصحة إلى العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية، ففي العديد من الحالات، تتمتع النساء بأسلوب تفاوضي يركز على التواصل والحوار والتعاطف، مما يُسهم في خلق بيئة يسودها الاحترام والثقة المتبادلة بدلاً من المواجهة المباشرة. وتُظهر الدراسات أن هذا النهج الإنساني يُعزز من قدرة المجتمعات على تجاوز خلافاتها وبناء حلول مستدامة للنزاعات. فوجودهن على طاولة الحوار يُحدث تحوّلًا نوعيًا، يوسّع من تعريف “السلام” ليشمل الأبعاد الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
عندما تشارك النساء بشكل هادف في عمليات السلام، تكون النتائج أكثر شمولاً وتستمر لفترة أطول.
كاثرين مارشال Tweet
الحواجز البنيوية: جدرانٌ منيعة تُعرقل المشاركة
على الرغم من الدلائل القاطعة التي تُبرز القيمة الحقيقية للدور النسائي في عمليات بناء السلام، تواجه النساء سلسلة من العقبات الهيكلية المتجذرة:
- الاستبعاد من المفاوضات الرسمية:
تبقى طاولات المفاوضات الرسمية معاقل للهيمنة الذكورية، حيث تُستبعد النساء عن مشاركتهن بصورة كفؤة. على سبيل المثال، تُشير بيانات مجلس الأمن الدولي إلى أن النساء شكلن في المتوسط 13% فقط من المفاوضين و6% من الوسطاء والموقعين في الصفقات الرئيسية بين عامي 1992 و2019، مما يعكس استمرار هيمنة هياكل السلطة القائمة على نمط أبوي تقليدي يُعتبر فيه المجال الأمني والسياسي من اختصاص الرجال.
- ضعف التمثيل السياسي:
يؤدي التمثيل المحدود للنساء في الهيئات التشريعية والتنفيذية إلى تراجع فرص تأثيرهن في صياغة سياسات السلام حيث أن تمكين النساء السياسي لا ينفصل عن مشاركتهن في بناء السلام؛ فغياب أحدهما يكرس غياب الآخر؛ وهو ما يلقي الضوء على ضرورة توفير صوت نسائي قوي في جميع هياكل اتخاذ القرار.
- نقص الموارد والوصول:
تكافح منظمات المجتمع المدني النسائية، التي غالبًا ما تتصدر جهود السلام على الأرض، بسبب نقص حاد في التمويل والموارد اللوجستية والدعم التقني مقارنة بنظيراتها التي يهيمن عليها الرجال. هذا النقص لا يحد فقط من قدرتهن على تنفيذ مشاريعهن، بل يقيد أيضًا وصولهن إلى وسائل الإعلام التي تُعتبر منصة مهمة للتأثير في الرأي العام.
- الإطار القانوني غير الداعم:
تفتقر العديد من الأطر القانونية والسياسية الوطنية إلى الاعتراف بمبدأ المساواة بين الجنسين، أو لا تُطبّق بشكل فعّال، مما يترك النساء دون حماية كافية لحقوقهن، فالأطر القانونية التمييزية تُعد حاجزاً أساسياً أمام المشاركة السياسية والاقتصادية للنساء، مما يؤثر سلبًا على إمكانية دخولهن إلى ميدان السلام.
في المجتمعات المنقسمة، تمتلك النساء شبكات ثقةٍ غير رسميةٍ تصل إلى قلب العائلات والعشائر. هذه الشبكات هي طرق سريعة لنقل المعلومات وبناء المصالحات.
محمد عمرو (وسيط دولي، معهد السلام الأمريكي، 2021) Tweet
الحواجز الثقافية والاجتماعية: قيود متوارثة تُعيق طموحات التغيير
تتداخل العقبات الهيكلية مع معوقات ثقافية واجتماعية عميقة الجذور، لتشكل معاً تحديًا مزدوجًا أمام مشاركة النساء:
- الأدوار النمطية والتحيّز الجنساني:
لا تزال الصور النمطية تُقيد دور النساء ضمن الإطار “الخاص” مثل المنزل والرعاية، بينما تُهمّش قدراتهن في المجالات العامة كالسياسة والأمن وحتى عمليات السلام، فالتحيّز سواء كان ظاهرًا أو خفيًا بين القادة الذكور والمفاوضين يُحول دون إقرار النساء كمنافسات على المسائل الحرجة في بناء السلام.
- الأعراف الاجتماعية والمقاومة المحلية:
تواجه النساء اللاتي يسعين للظهور في ساحة السلام مقاومة شديدة من داخل مجتمعاتهن. فالمشاركة العامة تُعد تحديًا للتراتبية الاجتماعية التقليدية أو للقيم الدينية المُتشددَة، مما يعرضهن لضغوط عائلية واجتماعية، وربما حتى للمخاطر الجسدية.
- وصمة العار وانعدام الأمان:
المشاركة العلنية في عمليات السلام، خاصة في سياق ما بعد النزاع، قد تضع النساء في موقع خطر. إذ يُمكن أن يُنظر إليهن على أنهن خائنات أو متواطئات مع أطراف محددة، أو حتى تهديدًا للنخب السائدة. وفي هذا السياق، تُشير شبكة “كفى عنفاً واستغلالاً” إلى أن الناشطات في مجال حقوق الإنسان والسلام من بين الفئات الأكثر استهدافًا بالعنف والترهيب في البيئات الهشة، بما يشمل التهديدات الجنسية والاختطاف وأشكال العنف الأخرى.
- الفجوة في القدرات:
في بعض البيئات، يُستغل نقص التدريب المتخصص والخبرة الرسمية في مجالات الدبلوماسية والتفاوض كذريعة لاستبعاد النساء، رغم ما تمتلكه من مهارات وساطة وتواصل مجتمعي ممتازة. هنا يكون الحل في الاستثمار المرتفع في بناء القدرات وتوفير فرص التدريب بدلًا من الاستبعاد.
أمثلة ملهمة تثبت فعالية المشاركة النسائية رغم الصعوبات

تألّقت قصص السلام على مدى العقود الماضية باعتبارها شهادة على أن النساء قادرات على تحويل العواصف إلى آفاق من الأمل رغم التحديات الجذرية. ففي ليبيريا، كانت رحلة السلام النسائية أسطورة قائمة بذاتها، حينما اشتدت ويلات الحرب الأهلية، نهضت نساء بقيادة ليما غبوي لتشكيل حركة “مساومة من أجل السلام” حيث قدمت هذه الحركة مثالاً حيًّا على القوة التنظيمية غير العنيفة، إذ نظّمت النساء إضرابات واعتصامات سلمية ضغطت بقوة على الأطراف المتحاربة للتفاوض.
وفي قلب كولومبيا، شُيد جسر آخر نحو السلام أثناء مفاوضات السلام بين الحكومة وقوات FARC، فقد أدرك صانعو الاتفاق أن تحقيق استدامة السلام يتطلب مراعاة احتياجات النساء، فتم تأسيس لجنة فرعية للنوع الاجتماعي تضم ممثلات من كلا الطرفين ومنظمات نسائية. عملت هذه اللجنة بشكل دؤوب على مراجعة الاتفاق من منظور جندري لضمان شمول حقوق النساء حيث أن دمج هذا المنظور لم يكن ليتحقق دون الضغط المستمر والمشاركة الفنية للحركات النسائية.
أما في أيرلندا الشمالية، فقد تبلورت قصص السلام عبر العمل الجماعي في ساحات المجتمعات المحلية. على الرغم من قلة التمثيل النسائي في مفاوضات اتفاق الجمعة الحزبية، انطلقت منظمات نسائية من كلا الطائفتين الكاثوليكية والبروتستانتية لتبني جسور التواصل والحوار، حيث ركزت هذه المنظمات على القضايا المشتركة مثل التعليم والصحة ورعاية ضحايا العنف، مما ساهم في خلق مناخ مؤيد للمصالحة.
السلام الحقيقي لا يُبنى بالحبر فقط، بل بالأصوات، بالدموع، بالإرادة… والنساء جزء أصيل من هذا البناء، إذ لم تعد مشاركة النساء خيارًا يُمكن تجاهله أو تأجيله، بل أصبحت مكونًا ضروريًا لأي سلام يراد له أن يصمد في وجه الزمن. وبينما الطريق لا يزال مليئًا بالتحديات، فإن التجارب الواقعية والنجاحات السابقة تُثبت أن إشراك النساء في عمليات بناء السلام ليس مجرد حلم، بل مشروع قابل للتحقق، إذا ما وُجدت الإرادة السياسية والإيمان بقدراتهن.
آفاقٌ تنسجها أناملُ النساء بانيات السلام
النساء سوف يعملن على إعادة تحديد مفهوم السلام باستخدام بصيرتهن في الأماكن التي طالما تم تجاهلها – الهوية المهمشة. مستقبل المصالحة لن يُرسَم فقط في قاعات اجتماعات المنظمات الرسمية، بل سيُبنى أيضاً في الأماكن التي شهدت آثار الحرب، حيث ترك الأطفال والكبار مع عواقب الصراع. سوف تنقل هذه الرؤى السلام من حالة النسيان إلى ميادين العمل الحقيقي. ستتكون شبكات الثقة التي تُبنى في القرى المنكوبة من عناصر أساسية يمكن استخدامها كنظام إنذار مبكر. كل حديث تديره امرأة بين طرفين متنازعين سيمثل جسراً لتجاوز الخلافات العميقة.
كما ستظهر لغة وساطة جديدة قائمة على الحوار الهادئ والعملي بدلاً من الخطابات المتكلفة، مبنية على تواصل مباشر يصل إلى عمق قلوب من تأثروا بالنزاع. كذلك، ستُحوّل النساء القيود التقليدية التي كانت تُعيق تقدمهن إلى وسائل لتحقيق التحرر، بحيث يتحول دور “الحارسة” إلى أداة أخلاقية لمحاسبة المخطئين، وتتحول صورة “الضعيفة” إلى وسيلة للدفاع عن الضعفاء. في نهاية المطاف، سيصنع المستقبل أولئك اللواتي يؤمن بأن السلام الحقيقي لا يعني ببساطة انتهاء القتال، بل يستلزم بدء عملية الإصلاح وإعادة بناء الحياة قبل تحقيق الهدوء الكامل.