الوساطة.. فن معرفة ماذا يريد أطراف الصراع!
يقول أحد الوسطاء الداخليين “إنني أكذب في بعض الأحيان، عندما أتحدث إلى أطراف الصراع، وأقول لهم أن الطرف الآخر يريد التحدث إليكم، حتى لو كان الطرف الآخر قد قال لي إنه لا يريد ذلك”. لكنه استدرك قائلاً: “حسناً، أنا لا أكذب بالمعنى المتعارف عليه، ولكنني أقول حقيقة أعمق: إنهم يريدون التحدث، ولكن لأسباب تكتيكية ولحفظ ماء وجههم، يقولون إنهم لا يريدون التحدث حتى وإن كنت متواجداً معهم على انفراد. بالطبع إن كان تخميني عن نواياهم الحقيقية خطأ، أكون قد انتهيت، ولكنني في هذه الحالة كنت على حق: فقد جلسوا أخيراً للتحدث معاً”.
بهذا الاقتباس نستطيع لمس أهمية ومدى تعقيد وحساسية دور الوسيط/ة الداخلي، ونلقي نظرة على دورهم المهم في فهم ماذا يريد حقاً أطراف الصراع عابرين بذلك المصالح الشخصية، والنوازع العرقية والثقافية والدينية والمكاسب السياسية ليكون الوسطاء الداخليون مفاتيح للسلم في مجتمعاتهم.
الوساطة في النزاعات قديمة قدم النزاعات في البشرية
عرفت الوساطة منذ آلاف السنين بأنها عملية حل النزاعات التي يقوم فيها طرف محايد خارج أطراف النزاع بوظيفة المراقبة وتخفيف حدة النزاع، لتحسين العلاقات والتواصل بين الأطراف، اعتماداً على إرادتهم للوصول إلى أرضية مشتركة قد تتوج باتفاق رسمي حول النزاع.
يعتقد الباحثون التاريخيون بقدم الوساطة بأشكالها ويرجعون أقدمها إلى الحضارة السومرية في الشرق الأوسط عام 4500 ق.م.
اعتمدت فلسفة كونفوشيوس في الصين 550 ق.م مساعي الوساطة وأكدت على ضرورة لجوء أطراف النزاعات إلى المصالحة الإرادية، لتسجل فيها أولى حالات استخدام الوساطة المكوكية بين الأطراف، فيجتمع الوسيط مع كل طرف على حدى، ويعمل على إيصال المطالب والرسائل وتحسين العلاقات، الأمر الذي جعل الوساطة وسيلة أساسية في حل النزاعات في الصين لآلاف السنين وإلى يومنا هذا.
تورد الكتب المقدسة السماوية قصصاً عن وسطاء تدخلوا بموافقة أطراف النزاعات لحلها أو تغييرها مثل قصة وساطة النبي سليمان في التوراة مع السيدتين المتنازعتين حول نسب طفل، و أيضاً في السير ونعرف منها قصة قبول تحكيم النبي محمد بين أهل مكة حول إعادة بناء الكعبة قبل البعثة.
تعتمد الوساطة في مناطق من بلاد الشام كوسيلة لتسوية النزاعات الأهلية خاصة في جرائم القتل، وسميت بعقد الراية عند الموحدين الدروز، يقوم مشايخ الطائفة بجولات وساطة بين أهل القتيل وأهل القاتل بهدف الوصول إلى الصلح بدفع الفدية أو المسامحة، ومازالت تستخدم منذ مئات السنين حتى الآن.
كما تعتمد هذه العملية تحت اسم المصالحة عند الكثير من العشائر السورية في مختلف المناطق ووثقتها مديرية الآثار والمتاحف كجزء من التراث الثقافي اللامادي السوري عام 2014.
الوساطة في حياتنا المعاصرة
تعرف الوساطة كوسيلة فعالة لحل النزاعات بمختلف صورها سواء كانت تجارية لتسرع الوصول إلى النتائج الاقتصادية للأطراف أو اجتماعية (شرعية–أسرية) تخفف من وطئ التقاضي والإجراءات على أفراد الأسرة أو وساطة في نزاعات مسلحة دولية تقلص الويلات الإنسانية للمعارك والحروب، حيث تعتبر الوساطة من أكثر الوسائل فعالية لمنع نشوب النزاعات وإدارتها وحلها دولية كانت أم داخلية حسب ميثاق الأمم المتحدة.
تمنح اتفاقيات جنيف لعام 1949 – وهي جزء من القانون الدولي الإنساني الذي يحكم النزاعات المسلحة، هيئات دولية محايدة مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر وغيرها الحق في تقديم الخدمات لأطراف النزاع للحد من آثار النزاعات. ويحمي القانون الدولي الإنساني الأشخاص الذين لا يشاركون أو الذين يكفون عن المشاركة في الأعمال العدائية.
“تعتبر الوساطة بحسب دليل توجيهات الوساطة للأمم المتحدة: عملية يقوم من خلالها طرف ثالث محايد مقبول بمساعدة طرفين أو أكثر، بموافقة تلك الأطراف، بمنع نشوب نزاع أو إدارته أو حله عن طريق مساعدة الأطراف على وضع اتفاقيات مقبولة للجميع”.
تقوم الوساطة الدولية على منطق وفرضية هامة أنه في حال وجدت البيئة السليمة يمكن للأطراف المتصارعة تحسين علاقات التواصل فيما بينها للوصول إلى حالة من التعاون لحل أو إدارة أو تسوية نزاع، على صعيد محدود بقضية واحدة، أو أشمل ليصل إلى اتفاق سلام كامل.
كل ذلك يتم بمسعى طوعي، وبموافقة حاسمة من الأطراف المتصارعة حيث يقوم الأطراف بالموافقة الكتابية على عملية وإجراءات الوساطة بما يشمل الأجندة ودور ومدى سلطة الوسيط، كل ذلك يتم في مساحة من الدعم الدولي وغالباً الأممي لهذه العملية.
هل سمعت عن وسطاء داخليون في نزاعات أهلية أو مسلحة يعملون داخلياً بلا دعم أو نفوذ؟
قد تصل الحالة في النزاعات الأهلية والمسلحة، إلى وضع لا يمكن للوسطاء الدوليين التدخل فيه بعد، أو يبادر أشخاص محليون اتخاذ هذا الدور ويصبحون وسطاء يعملون على تخفيف حدة النزاع.
قد لا يكون لديهم منزلاً يعودون إليه آمنين أو أطراف محلية أو دولية تهتم لأمرهم إذا تعرضوا لمخاطر التدخل في النزاع هؤلاء هم/ن الوسطاء والوسيطات الداخليون/ات.
“ينظر إلى الوسطاء الداخليون كأصحاب معرفة متعمقة بالوضع ولهم علاقات وثيقة مع أطرافه.”
تعترف الأمم المتحدة بأهمية ودور الوسطاء الداخليين وما يقومون به من مساعي وأدوار مختلفة عن الوساطة الرسمية الخارجية كمبعوثين، نشطاء حقوق، مضيفين، مسهلين، مشخصي صراع، باني ثقة، معالجين، مدربين، منظمين، ومنسقين ويؤكدون أهميتها في الوصول إلى الوساطة الرسمية الخارجية والتحضير والاستعداد لها ويؤكدون على أنه لا يمكن أن تتم عملية بناء سلام دون تنسيق الجهود بين الوسطاء الداخليين المحليين والخارجيين الدوليين.
تدفعنا تصوراتنا المسبقة عن عمليات الوساطة الرسمية إلى التساؤل كيف يمكن لشخص أن يكون وسيطاً داخلياً؟
هنا يكمن التحدي في عمل الوسيط الداخلي، إذ أنه متأثر وأحياناً طرف بالنزاع ولا يتمتع بالحياد الكامل وإنما هو إنسان اختار المبادرة والتحرك ليستثمر معرفته الواسعة بالنزاع وعلاقته الموثوقة مع أطرافه، لتقوم الوساطة على موافقة شفهية للأطراف قد تنتقل فيما بعد إلى اتفاقيات مكتوبة.
حالات وساطة داخلية معروفة عالمياً اعتمدت بعضها لتكون منهجاً داعماُ للوسطاء الداخليون
ستيلا سابيتي سيدة مختطفة سابقاً خلال نزاع عنيف أن تكون وسيطة بين أطراف هذا النزاع في أوغندا.
ديكا ابراهيم عبدي والتي بدأت وساطتها في نزاعات تجار الخضار في السوق في واجير كينيا.
فرانكلين كويخانو في الفلبين الموظف الحكومي الذي استثمر علاقاته وثقته في المجتمع ليكسب ثقة الخصوم.
باداما راتنا تولادار الناشط الحقوقي في ماوي أن يكون وسيطاً بين أطراف تستخدم العنف وتتبناه كاستجابة للقضايا.
ريا قاديروفا الناشطة النسوية التي استطاعت أن تكون مقبولة كسيدة تتوسط بين الرجال وتلعب أدواراً متعددة في ما يخص مسائل النفوذ والقوة.
دور الوسطاء الداخليون في عمليات السلام
تفكك دراسة قامت بها مؤسسة بيرهوف بالتعاون مع مشروع دعم الوساطة التابع لمؤسسة السلام السويسرية ومركز الدراسات الأمنية (CSS) تجارب الوسطاء الداخليون في محاولة لفهم السلوكيات والخبرات المكتسبة لأناس متفانين من مناطق الصراع، بذلوا جهوداً كبيرة في عمليات وساطة غير رسمية أدت لتغييرات إيجابية.
تستخلص الدراسة أربع خصائص للوسطاء الداخليين في عمليات الوساطة الداخلية
أولاً: يتميز الوسطاء الداخليون بالالتزام والمعرفة المتعمقة والعلاقات
يظهرون قدراً كبيراً من المثابرة، لا يهمهم الشهرة الإعلامية أو المصالح المالية، وتدفعهم رغبة شعوبهم في تحقيق السلام على الرغم مما قد يواجهونه من مخاطر أو اتهامهم بسمعتهم أو نزاهتهم أو التهمة الأخطر التي يمكن أن توجه لأي وسيط/ة بالانحياز.
فهم وسطاء داخليون حقيقة بأن انحيازهم يكون في العلاقات وليس في النتيجة أو العملية، فهي مورد يستعمله الوسطاء الداخليون في تطوير العملية والوصول إلى النتائج.
“ينصح الوسطاء الداخليون أطراف النزاع “بفصل الأشخاص عن سلوكهم” ويوصون أنفسهم بالحقيقة ذاتها، حيث يمكن للمرء أن يكون متحيزاً لكن يتصرف بطريقة متوازنة”
ثانياً: يعتمد الوسطاء الداخليون على عدة موارد متأصلة في الخلفيات الثقافية في المجتمعات:
- التحفيز بزيادة دعم السكان المحليين لهم حتى لو كان الدعم والتفويض غير رسمي .
- يستخدمون العمل الجماعي ويعرفون أنه لا يمكن لوسيط/ة منفرد الإحاطة بتعقيدات نزاع لوحده.
- يستثمرون في فهم الأديان والممارسات الثقافية لتحقيق اتصال أفضل بأطراف النزاع.
- يبنون على سمعتهم وتراكم خبراتهم في عمليات الوساطة، لتكون السمعة المتراكمة مهارة في عمليات وساطة جديدة.
- يعظمون الموارد المادية مثل استثمارهم للموارد غير المادية، ويشاركون في تأمينها، وإن أدى ذلك أحياناً ليكونوا مساهمين شخصياً ومتطوعين في استضافة وتيسير عمليات الوساطة.
ثالثاً: يتكامل الوسطاء الداخليون في أدوارهم مع الوسطاء الخارجيون لإنجاح عملية تحويل وإدارة النزاع:
حيث أن جهود الوسطاء الداخليون تحرص على التمكين المحلي، والملكية الوطنية لتحويل النزاع وهو من أهم الشروط لتحقيق استدامتها، كما يستفيدون من التعلم والتنظيم الموجود عند الوسطاء الخارجيين والدعم الدولي، ويلعب الوسطاء الداخليون أدواراً مبنية على فهمهم العميق للمنطقة والنزاع والسياق قد لا يمكن للخارجيين لعبها كأن يقوموا بتوصيل رسائل بين الأطراف تقطع حالة انعدام الاتصال، أو محسنين للتواصل بينهم فلهم ميزة لا يمكن تجاهلها أنهم يعيشون النزاع مع أطرافه.
رابعاً: تكمن أهمية الوسطاء الداخليون في استدامة تحويل النزاع:
لا يكفي العمل على النزاعات في وقت حدوثها وإنما يجب العمل تغيير البنية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تدعم اندلاع و/أو استمرار النزاع عبر التقييم الجوهري والمشاركة في العلاقات والمصالح والخطابات التي تعزز النزاع العنيف، وهو ما يسمى تحويل النزاع.
للوسطاء الداخليون دوراً مهماً في حفظ السلم الاجتماعي، وتشكيل نظام إنذار مبكر للحفاظ على عمليات تحويل وإدارة النزاع وجعلها أكثر قبولاً محلياً، لأنهم يملكون الشرعية والخبرة في التعامل مع الشروخ المجتمعية، يدعمون بلدانهم في اللحظات التاريخية للتحول إلى مجتمعات أكثر عدلاً ومسالمة.
يمكننا القول أن أهم ما يتمتع به الوسطاء الداخليون رؤيتهم لما يودون أن يكون حال بلادهم في المستقبل وكيف يتصرفون ويفكرون ويتخطون عقبات النزاع للوصول مع الجميع لما هو أفضل.
معرفة ماذا يريد أطراف الصراع لا يتطلب من الوسطاء باختلاف أدوارهم، أن يكونوا محبوبين فقط، وإنما أن يعرفوا كيف يمكن للجميع أن يصل لما يريده حقاً رغم ضجيج وآلام النزاعات.
إعداد: محمد خير التيناوي
محام وناشط مجتمعي
المزيد عن الوساطة: