يعيش النحل على وجه الكرة الأرضية منذ أكثر من 130 مليون سنة، وذلك برفقة الإنسان منذ بدء البشرية، والذي عاد بالنفع على البشر بالعسل كغذاء ودواء، واستطاع النحل منذ الأزل النجاح في العمل كمجموعة واحدة، لأن أعضاء مستعمرة النحل يعملون من أجل الصالح العام للمستعمرة وليس من أجل المصلحة الفردية، كلٌ في دوره الذي يكامل دور الآخر بما فيهم “الملكة”، ووفقاً لمجلة التايم البريطانية استخدمت كلمة “نحل” من القرن السابع عشر لوصف حالة أفراد مجتمعين للعمل معاً لهدف واحد.
ولهذا كان العمل بروح الفريق من أهم مقومات النجاح في الكيانات بمختلف هياكلها التنظيمية، من مؤسسات ومنظمات وفرق عمل. ولتكون القدرة على تأصيل هذه الثقافة -العمل ضمن الفريق- ممكناً ضمن المؤسسة كأحد أهم أسباب الفعالية في تحقيق أهدافها، يجب على أفراد الفريق ملامستها وممارستها فعلياً بقناعة ضمن استراتيجية عمل مخطط لها ومتوافق عليها.
ما هو تعريف فريق العمل؟
منذ منتصف القرن العشرين ساهمت النظريات الإدارية التي ظهرت آنذاك في التوجه نحو الاهتمام بالعنصر البشري، وأعطت مفاهيم إدارة الجودة الشاملة دعماً إضافياً للعمل الجماعي المخطط والمدروس، حيث مثلت فرق العمل أحد المرتكزات التي تقوم عليها هذه المنهجية.
عرف جابلونسكي إدارة الجودة الشاملة على أنها ”استخدام فرق العمل في شكل تعاوني لأداء الأعمال بتحريك المواهب والقدرات الكامنة لكافة العاملين في المنظمة لتحسين الإنتاجية والجودة بشكل مستمر“ ويعتبر اليابانيون من أوائل من طبق إدارة الجودة الشاملة، وحلقات الجودة، وفرق العمل وذلك بتأثير جهود د.أدوارد ديمنج.
تلك النظريات والمفاهيم التي ما لبثت إلى أن أثبتت جدواها الإدارية، مما دفع أكثر إلى الاهتمام بالعنصر البشري والاهتمام به كعضو ينتمي إلى فريق عمل يتسم بالتعاون لتحقيق الأهداف.
وعليه إن أردنا أن نعرف فريق العمل فإنه:
“مجموعة من الأشخاص المرتبطين بتحقيق هدف معين، تتكامل جهودهم وخبراتهم، ويعملون معاً بحيث يكون مجمـوع أدائهم المشترك أكبر من مجموع جهودهم الفردية في سبيل تحقيق النتيجة المنشودة.”
تختلف تصنيفات فرق العمل تبعاً لاختلاف الأهداف التي تضعها لعملها، أو بحسب الهيكلية التي تتبناها، ومما لا شك فيه أن التطور المتسارع في التقنيات ووسائل الاتصال وعولمة الفكر الإداري أدى إلى تراكب الأهداف ضمن الهيكليات المختلفة لفرق العمل أياً كان شكلها وتصنيفها، مما أظهر لنا حاجة وجود دور لشخص محدد يكون على دراية بتدفق العمل وديناميكيات العلاقات ضمن الفريق، ويمتلك مهارات قراءة واستشعار البيئة الداخلية له، ثم يتدخل بأدواته لزيادة فعالية الأفراد بعملهم الجماعي وحفظ جودة الوصول للأهداف، وهذا ما لا يحدث إلا بتبادل الثقة بين أعضاء الفريق الواحد وتقاسم المسؤولية المشتركة للوصول إلى الإنجاز المشترك.
تطور هذا الدور ليصبح أساسياً في عمليات بناء فرق العمل الفعالة واستمراريتها، حيث يعمل متبني الدور على تثبيت الثقة فيما بين أعضاء فرق العمل وتوجيه وقيادة أجزاء أساسية من عمل الفرق التنظيمي، كالاجتماعات وجلسات التخطيط، واتخاذ القرار وأيضاً التدريب والتعلم المشترك. وتُعرف هذه العملية بالتيسير.
التيسير والميسر
ما هو التيسير؟
يعرف مايكل ويلكينسون التيسير بأنه: “اجتماع منظم للغاية يوجه فيه قائد الاجتماع (الميسر) ويدمج من خلاله خبرات المشاركين من خلال سلسلة من الخطوات المحددة مسبقًا للوصول إلى نتيجة يتم خلقها وفهمها وقبولها من قبل جميع المشاركين.”
وفي تعريف آخر للتيسير فهو عملية إشراك المشاركين في تكوين رؤى التعلم واكتشافها وتطبيقها.
أما الميسر: فهو الشخص الذي يساعد في تحقيق مخرجات من عملية تدور بين أشخاص آخرين (كالتعلم أو الإنتاجية أو الاتصال) وذلك بتقديم المساعدة لهم عبر أدوات يمتلكها أو الإشراف غير المباشر على العملية.
أهداف العملية التيسيرية:
سواء كان التيسير في أي اجتماع بقصد التعلم أو بهدف اتخاذ القرار أو التوافق على آلية معينة، فالغاية من العملية التيسيرية تحقيق أكبر قدر من التشاركية بين المشاركين وآلية جماعية للتعلم والاكتشاف بالممارسة، مما يضع المشاركين على أرضية واحدة ومسؤولية مشتركة في تحقيق أهدافهم، مع تجنب وجود حواجز السلطة في هذه الجلسات ومحاولة الاستماع لكل الأصوات بما فيها الأصوات الخافتة. ويرى أن كل فرد من المشاركين هو مورد هام في سبيل تحقيق أهداف الفريق. ويحـرص في هذه المرحلة على أن يمنع النزاعات من أن تتحول إلى نزاعات شخصية بل يجب أن تتم الاستفادة من الصراع الموجود لبناء الأفكار وتنقيتها. كما يسعى لحل المشاكل والتعاطف مع الأعضاء لأن هذه مرحلة طبيعية في العديد من فرق العمل غير أنه لابد من تجاوزها إلى مرحلة أرقى وأنضج.
كما يعمل الميسرون على تحسس النزاع ضمن الفريق، وحل الخلافات بين أعضاءه، وذلك يعزز الثقة والمسؤولية في سبيل تحقيق الأهداف دون تدخل مباشر من الميسرين في صنع القرار، إنَّما مهمتهم الفعلية هي أن يتفاعل المشاركون مع بعضهم البعض مباشرةً.
وينطلق التيسير من مشاركة الفرد في استكشاف الموارد الذاتية والبناء عليها، عبر المشاركة في الحوارات الهادفة عبر التي تخلقها المساحات التيسرية والانتقال منها إلى استكشاف موارد المجتمع واستثمارها.
فمبادرون تعتمد التيسير في نظرية تغييرها كإحدى المنهجيات الفعالة للوصول لبناء الثقة ودعم التعايش السلمي واستدامته، بما يخلقه من مساحات لإدارة الحوارات الحقيقية التي تلامس شغاف الحاجات الذاتية والمجتمعية للأفراد ضمن مسارات التغيير المختلفة التي تعمل مبادرون على التدخل ضمنها، وتحرص على إدارة هذه المساحات تحت إطار المفاهيم اللاعنفية، بالتوعية على مفهوم الحوار الحقيقي واستثماره بما يتيح المجال للأفراد للتعبير عن ذواتهم واستقبال آراء الآخرين.
كما أن أحد أهم النتائج التي تضمنها العملية التيسيرية هي تسهيل وصول أطراف المشاركين لبناء التوافقات فيما بينهم، ولهذا فإننا ننظر للتيسير على كونه منهجية تغيير مجتمعي وأحد أهم أدوات الوساطة في التدخل لحل النزاعات والمشكلات في السياقات المختلفة.
كيف يتفاعل الميسر مع فرق العمل؟
يختلف دور الميسر باختلاف المرحلة التي يمر فيها فريق العمل برحلة تشكله، فلا توجد سلوكيات محددة سلفاً للتعاطي مع فرق العمل، لأن اختلاف فرق العمل وظروفها وطبيعة أعضائها تحتم اختلافاً في السلوكيات التيسيرية المثلى، وإن الفهم الصحيح لمراحل تطور الفريق، تفيد بمعرفة مستوى نضج التشاركية والثقة بين أعضاءه ليصل لمرحلة الأداء والإنجاز الفعلي مروراً بالمراحل التالية:
1- مرحلة التشكيل Forming:
تتميز المرحلة الأولى بالكثير من الغموض حول تشكيلة الفريق ومن هم أعضاءه.
وتتم في هذه المرحلة المحـاولات الأولى لاختيـار الأعضاء لبعضهم البعض ومحاولة التعرف على الأفراد المكونين للفريق عن كثب. وتعتبر هذه المرحلة بمثابة مرحلة مرحلة الاختبار أو ما يعرف بلغة عامية “جس النبض” والتعـرف إلى تشكيلة الفريق والتعرف إلى الهدف من تكوينه وغاية وجودهم معاً.
تحتاج هذه المرحلة من الميسر خلق بيئة آمنة لتعارف الأعضاء على بعضهم أولاً مما يزيد مساحة الثقة بينهم كأفراد، ثم العمل بالإجراءات لوصول الأعضاء لوعي عن مهامهم وأدوارهم ضمن الفريق في الإنجاز الصحيح والكفؤ لمهامهم وكيف يخدم هذا الإنجاز رؤية المؤسسة.
2- مرحلة النزاع (العاصفة) Storming:
تتميز هذه المرحلة بمحاولة فرض أعراف معينة للفريق وطريقة عمله. وفي هذه المرحلة يحاول أعضاء الفريق إثبات نفسهم وربما حاول بعضهم فرض أعرافاً تناسبهم.
وقد يختلف الأعـضاء حـول تلـك الأعراف والقوانين كما قد يتنازعون حول قيادة الفريق في حال لم تقم الإدارة بتعيين القائد أو بتحديد القواعد والنظم والأعراف التي على أساسها يجتمع الفريق.
ليس كل نزاع رديء وليس كل صراع سلبي، ففي هذه المرحلة يستخدم النزاع الموجود لشحذ الأفكار واستخراج الآراء والبحث عن قوانين وأعراف خاصة بالفريق تناسبه دون تعارض مع قوانين وأعراف المؤسسة.
3- مرحلة الاستقرار Norming:
عند انتهاء النزاع أو معظمه تبدأ فترة الاستقرار حيث يتم الاتفاق على الأعراف والقوانين المتعلقة بالفريق (الاجتماعات، طريقة اتخاذ القرارات، الجدولة الزمنية، الخ…).
وفي هذه المرحلة يتجه الميسر للتخفيف من تدخله ويسعى أن يطور الفريق نفسه بعد اتفاق أعضاءه على اتفاقيات واضحة المعالم وأدوار موزعة، ويعنى الميسر هنا بالتذكير بها عملية تكامل الأعمال فيما بينهم والاحتفال بالإنجازات المشتركة مما يساعد في استقرار بيئة الداخل أكثر فأكثر.
4- مرحلة الأداء Performing:
وهي المرحلة الأهم، فبعد الاستقرار يتفرغ أعضاء الفريق للمهمة الموكلة لهم، ويتم تبادل الأفكار والخبرات حول السبيل الأمثل للإنجاز. وفي هـذه المرحلة تبدأ نتائج عمل الفريق بالظهور سواء كان من ناحية سرد الوقائع المكتشفة أو اتخاذ القرارات أو التوصيات أو التقارير.
وهذه مرحلة متطورة يتضاءل فيها دور الميسر ويفوض الكثير من الأمور إلى الفريق نفسه الذي يعمل بشبه استقلالية ويتنور بأفكار أعضائه ويتعلم من أخطائه. وهنا قد يتغير دور الميسر من كونه منظماً ومتدخلاً إلى استشارياً.
وعلى عموم المراحل يستحال على فريق أن يركز طاقته بشكل فعال على تنفيذ خطة أو تحقيق هدف، إذا تشتت أعضاءه بالعلاقات الضعيفة التي تربطهم، وأفضل ما يبني العلاقات هو تبادل الثقة بينهم للوصول إلى ما يقال عنه روح الفريق الواحد.
"القادة الجدد هم الميسرون، وليسوا موجهوا الأوامر"
جون نيسبيت Tweet
مهارات وسلوكيات الميسر:
على الميسر أن يتحلى بقيم التيسير ويعكسها بسلوكيات ضمن اجتماعاته أو ضمن تواصله مع الفريق ليبني بينهم جسور الثقة ويقوي بنيانه بالإنجاز المشترك، ومن أهم هذه السلوكيات:
أولاً: الاستخدام الفعال للوقت والموارد:
فاجتماع الأشخاص معاً سواء كان فيزيائياً أو افتراضياً، له تكلفة حقيقة. والوقت الضائع غير المثمر يضعف الروح المعنوية ويمنع المشاركين من الوفاء بمسؤولياتهم الأخرى. هنا يمكن أن يساعد الميسر المحترف المجموعة على تحقيق المزيد في وقت أقل، مما يلغي الحاجة إلى اجتماعات متعددة، ويولد الزخم إلى الأمام بشأن القضايا قيد المناقشة.
ثانياً: المشاركة الكاملة:
يشجع الميسر الجيد التشاركية في بيئة الفريق، بينما يؤطر ميل بعض أعضاء المجموعة للسيطرة على القرار. ويخلق بإجراءاته ما يدعم مساهمة الأصوات الخافتة، وأيضاً أولئك الذين تختلف وجهات نظرهم عن آراء القائد أو الأغلبية. كما تعطي التشاركية والاستماع الفعال المجموعة فهمًا أكثر اكتمالاً لوجهات النظر وفرصة أفضل للتوصل إلى قرارات مستدامة.
ثالثاً: توثيق النتائج:
يمكن أن تفرز الحوارات بين المجموعة الكثير من المعلومات والأفكار، وعلى الميسر أن يكون حريصاً على تدوينها دون الانحياز إلى طرف دون الآخر، وتساعد الفريق على تحديد مجالات الاتفاق والقضايا التي لم يتم التوافق عليها بعد.
رابعاً: تشارك توليد الحلول التوافقية:
بعد طرح الإطار الكامل لوجهات النظر المختلفة والترحيب بالآراء القوية، يشجع الميسر إيجاد الحلول الابتكارية الخلاقة التي لم يتم النظر لها سابقاً والتي قد تكون حلول الاختلافات الواضحة، وبعدها تكون المجموعة قادرة على صياغة الاتفاقيات المدعومة من جميع أعضاء المجموعة نتيجة لشعورهم بالملكية والمسؤولية المشتركة لهذه الحلول.
هذه الاستراتيجيات والسلوكيات السابقة لا تساعد في بناء فريق عمل ناجح فحسب، بل تساعد على بناء بيئة عمل صحية قادرة على الإنتاج والتطوير ومواجهة التحديات بنفس الفريق الواحد.
وهنا لابد للتنويه إلى أن التيسير لم يعد يقتصر على الفرق العاملة ضمن حيز جغرافي واحد، بل أنه تجاوز ذلك إلى التيسير عبر الحدود ضمن عمل الفرق التي تتواصل افتراضياً، وهذا ما يتطلب جهداً آخر من الميسر بتطوير أدواته ومهاراته لأداء دوره، مع تحدي عدم وجود التواصل الإنساني في الحيز الفيزيائي الذي كان يختصر طريق بناء الثقة والعلاقات ضمن الفريق الواحد.
عملية بناء فرق العمل الفعالة، هي عملية قد لا تكون بالسهلة وتحتاج وقتها، وقد تكون تحدياً كبيراً كالتحديات العديدة التي تواجه سير العمل نحو الأهداف! لكن الوصول لفريق ذو روح عالية هو أسهل الطرق لتجاوز التحديات وتحقيق الأهداف وبلوغ الرؤى.
إعداد: محمد نور مستو
أيضاً عن التيسير: التيسير .. نهج حياة وعمل وتعلم