مع تطور المجتمعات وتطور الحياة الإنسانية برزت الحاجة للتواصل بين البشر، وكلما أصبحنا أكثر تطوراً وأكثر سعياً للتقرب، كلما زادت عواقب التواصل وكثرت الصراعات وتعاظمت، حتى أدت لحروب ودمار، وهذا ما دفع العديد من العلماء على مر الزمن لإيجاد وسائل تساعدنا على تحسين تواصلنا وفهم أنفسنا ومحاولة فهم الآخرين، لنصل إلى ما نصبو إليه.
وهذا ما سنقدمه خلال المقال، أحد الوسائل التي تم تصميمها من قبل أحد العلماء لمساعدتنا على فهم أنفسنا والتعاطف معها وفهم الآخرين والتعاطف معهم.
مما يساعدنا على تغيير التواصل المؤلم وقلب الصراعات، فالمنهج الموضوع من قبل مارشال روزنبرغ تحت عنوان “التواصل اللاعنفي لغة حياة” هو منهج معاش يساعدنا على تجاوز دوائر العنف التي فتكت بمجتمعاتنا وأوصلتنا لما نحن عليه اليوم.
ومن خلال سلسلة من المقالات سنتعرف على مفهوم التواصل اللاعنفي وركائزه ومكوناته الأربعة وكيف نستطيع استخدامه والاستفادة منه، لنبدأ!
ما هو منهج التواصل اللاعنفي؟
منهج التواصل اللاعنفي ويدعى أبضاً بالتواصل التعاطفي، هو منهج أنشأه مارشال روزنبرغ وهو عالم نفس أميركي الجنسية، بإلهام من المهاتما غاندي مؤسس ورائد اللاعنف، والذي عرف اللاعنف بأنه التواصل مع الآخر دون الإساءة له، وكارل روجرز أستاذ علم النفس الإنساني، وعالم الاقتصاد التشيلي مانفرج ماكس-نيف الذي حلل الحاجات الاقتصادية للدول المتقدمة اجتماعياً واقتصادياً.
ومنهج التواصل اللاعنفي يدعونا لنتكلم لغة الحياة، وأن نبحث عن ما هو حيّ فينا، وهي اللغة التي نعبر بها عن ذاتنا ونثري فيها الآخرين، وأيضاً نتعاطف بها مع ذاتنا بشكل إنساني وبسيط.
وهي مكونة من 4 خطوات:
- الملاحظة: هي وصف ملموس لتصرف أو لعدم التصرف بطريقة قابلة للمشاركة، ويكون خالٍ من أي حكم أو تقييم.
- المشاعر والأحاسيس: ماهي مشاعرنا وكيف نميز بين ما نشعر به وما نعتقد أننا نشعر به؟
- الحاجات: بوصفها المكون الأساسي في المنهج، وكيف نستطيع التمييز بين حاجتنا والاستراتيجيات أو الوسائل.
- الطلبات: وفي المكون الرابع يجب التمييز بين الطلب والتطلب لتكون العملية متكاملة.
ما هي الركائز التي يقوم عليها منهج التواصل اللاعنفي؟
للمنهج عدة ركائز يقوم عليها، أهمها:
- كل إنسان لديه موارد جديرة بالتقدير والاحترام يمكن أن تتجلى أو تظهر من خلال التعاطف الإنساني.
- يرغب كل الناس بإشباع حاجاتهم.
- نحن نبني علاقات طيبة من خلال التعاون بتلبية حاجاتنا بعضاً لبعض وليس من خلال السلوك العدواني.
- وراء كل سلوك حاجة (وهي الأساس في منهج التواصل اللاعنفي): لنحاول البحث عن أي سلوك في الحياة ونرى الحاجة التي تقف ورائه ولنحاول انطلاقاً من وعينا وملاحظتنا في الحياة أن ننتبه لأية سلوك يحدث ونقول: ما هي الحاجة التي تمت تلبيتها من القيام بهذا السلوك أو التصرف؟ ولا نأخذ أي سلوك فقط بما نرى، لنبحث أبعد من السلوك الذي نلاحظه ونرى الحاجة من ورائه حتى نستطيع أن نتعاطف مع أنفسنا ومع الآخرين.
- كل حاجة مفيدة للحياة: لأن المشاعر والحاجات تعبر عما هو حيّ فينا، لنتخيل حياتنا بلا حاجات! نحن نكون بلا حياة وانطلاقاً من هذا المبدأ لنسأل سؤال، هل توجد حاجات سلبية؟
الجواب: لا يوجد حاجات سلبية، حاجاتنا هي حاجات إنسانية وإنما السلبي والإيجابي يتبع للمفهوم الثقافي والمتعلق بالسلوك الذي يلبي الحاجة، حتى السلبي والإيجابي هو مفهوم متبدل عبر الزمن، يعني ما هو مقبول في إحدى الأماكن قد يكون غير مقبول في مكان آخر، وما كان غير مقبول من عدة سنوات اليوم مقبول ومسموح، فالسلبي والإيجابي متبدل عبر الزمن ويدفعنا للانتباه للطريقة التي تساعدنا بتلبية حاجاتنا بشكل إنساني ومجتمعي مقبول.
جوهر التواصل اللاعنفي هو العطاء من القلب
في طبيعتنا الإنسانية لطالما نستمتع في الأخذ والعطاء بطريقة عطوفة ورحيمة. فما الذي يتسبب في فصلنا عن طبيعتنا الشفوقة الرحيمة ويجعلنا نتصرف بعنف واستغلال؟ وعلى النقيض من ذلك، ما الذي يجعل الناس يظلون على تلك الطبيعة الشفوقة الرحيمة رغم تعرضهم لأشد الظروف مشقة وقسوة؟
هذين السؤالين ما دفع مارشال للتفكير بهما منذ عام 1943 وما دفعه لتفحصهما واستكشافهما.
ما الذي يمكننا من أن نبقى على تلك الطبيعة حتى عند التعرض لأسوء الظروف؟ ولم يغب عن باله أبداً أناس مثل إيتي هيلسوم، والتي بقيت حانية رحيمة حتى وهي تتعرض للظروف البشعة في أحد معسكرات الاعتقال الألمانية. وقد كتبت في مذكراتها عن هذه الفترة:
"لست ممن يرتعبون بسهولة. لا لشجاعة مني. ولكن لإدراكي أنني أتعامل مع بشر، وأنه ينبغي علي أن أحاول بأقصى جهد ممكن فهم كل ما يفعله أي إنسان. ولهذا لم تكن الأهمية الحقيقية لصبيحة هذا اليوم أن ضابطاً شاباً ساخطاً من الجستابو قد صرخ في وجهي، ولكنني لم أشعر تجاهه بأي نقمة أو استياء، بل شعرت تجاهه بشفقة حقيقة، وودت أن أسأله: هل كنت تعيساً في طفولتك؟ هل هجرتك حبيبتك؟ نعم، كان يبدو عليه التوتر والتحفز والغضب والضعف. كنت أتمنى أن أبدأ في معالجته على الفور، لأنني أدرك أنه هو وأمثاله من الشباب الذين يرثى لهم يمثلون خطورة كبيرة على الجنس البشري لو أطلق لهم العنان."
من مذكرات إيتي هيلسوم Tweet
وبينما كان يدرس مارشال العوامل التي تؤثر على قدرتنا على الاحتفاظ بطبيعتنا العطوفة، استوقفه الدور الحاسم للغة ولطريقة استخدام الكلمات. ومن هنا استطاع بعد ذلك تعيين طريقة محددة للتواصل تجعلنا نعطي من القلب، وتصلنا بأنفسنا وبالآخرين، بطريقة تسمح لما بداخلنا من حنو وشفقة بالازدهار. وأطلق على هذه الطريقة مصطلح التواصل غير العنيف.
فبينما قد لا نعتبر أن الطريقة التي نتكلم بها ربما تكون عنيفة فإن كلماتنا غالباً ما تؤدي إلى الجرح والألم، سواء لأنفسنا أو للآخرين.
وفي الختام يمكننا القول بأن منهج التواصل اللاعنفي هو منهج بحاجة للممارسة والتدريب، فهو منهج حياتي بإمكاننا تطبيقه يومياً في تواصلنا مع أنفسنا ومع الآخرين.
وهو منهج بحاجة للمتابعة فلا يمكننا تجاوز كل البرامج العقلية التي نشأنا عليها فورياً أو بدون تدريب وجهد، وسنعمل في المقال القادم على شرح الخطوات الأربعة مع تطبيقات وأمثلة عليها لتكون المحطة الأولى لتجربة هذا المنهج والدعوة الأولى للتغيير.
إعداد: ماهر عيسه
المزيد عن التواصل اللاعنفي: كيف يمكن لأربع خطوات أن توقف الصراعات في العالم