“الجندر ليس هو الجنس! والجندر ليس للنساء فقط!”
عبارة بدأت بها ناشطة نسوية سورية مختصة في قضايا الجندر بحديثها عن توضيح المآلات الاجتماعية والاقتصادية
والقانونية للنوع الاجتماعي وبالأخص في بيئة العمل.
هذه البداية تفتح باب أكثر النقاشات جدلية في المجتمع السوري والوطن العربي بسبب حصر مفهوم الجندر على اليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي بالحرية الجنسية أو تفسيره بمعاني مغلوطة وهجومية وتأويلات انتقائية مجتزئة من سياقها، يسعى البعض لربطها بالأديان والعادات والتقاليد، أو تفسيرات فردية لا تمثل نظرة موضوعية واقعية للجندر وقضاياه في سياقنا ولا في الواقع السياسي أو القانوني أو الاقتصادي أو الاجتماعي…الخ
ما هو مفهوم الجندر؟
"لا يتولد لدى الشخص الشعور بذاته ويستكمل نفسه بصفته جسماً فقط وإنما بصفته جسماً خاضعاً للمعتقدات والقوانين الاجتماعية."
سيمون دي بوفوار Tweet
تُستخدم كلمة الجنس للتعبير عن الجندر، في الواقع مصطلح الجندر هو تعريب لمصطلح النوع الاجتماعي، والذي يعبر
عن طيف واسع من التعريفات والهويات التي يُعرّف فيها الإنسان عن نفسه، ليتموضع النوع الاجتماعي ضمن البنى الاجتماعية متمثلاً في الأدوار الجندرية المتعارف عليها في مجتمع ما بحسب ثقافة وسياق هذا المجتمع، ليترتب على ذلك حصر الرجال والنساء اجتماعياً بسلوكيات وصفات تلائم الأدوار المفروضة على كل منهم/ن.
في حين يقتصر مصطلح الجنس على الفروقات الجسدية بين الذكور والإناث من البشر، والتي تحدد عند الولادة بناء على السمات الفيزيولجية وفقاً للأعضاء الجنسية وتكوين الصبغيات الوراثية.
الجندر، هوية اجتماعية يلبسنا إياها المجتمع
عندما نولد يقوم أهلنا بتسجيلنا كذكور أو إناث ثم المجتمع يجعلنا رجال أو نساء وفق صور نمطية وقوالب جاهزة.
من الصور النمطية عن الرجال أنهم أشداء، عصبيون، يتحدثون بعقلانية ويمكن نقاشهم بالمنطق، يمكنهم التكلم بصوت مرتفع والصراخ، والتصرف بحرية في الشارع والبيت على عكس النساء اللواتي يتأثرن بالتفضيلات الجندرية الاجتماعية.
لتكون النساء عاطفيات، يتحدثن برقة وخضوع وبأصوات منخفضة، وأكثر من ذلك يحدد لهن ماذا يلبسن وكيف يمشين في الشارع، بالإضافة إلى العديد من القيود التي يفرضها المجتمع على النساء المتعلقة بالتجول ليلاً والسكن المستقل وغيرهما.
تنميط النساء لا يقتصر على الجنس أو النوع الاجتماعي، وإنما يتعلق بترتيبات جغرافية ومصالح اقتصادية غالباً.
مثلاً النساء الريفيات غير النساء المدينيات، فسوق العمل في المجتمعات الزراعية لا يتحمل التفريق بناء على القوة العضلية بل الجميع يشاركون وتشاركن في قوى العمل ولكن تختلف المصالح والمكاسب.
تعمل المرأة الريفية في الأرض وبنفس المجهود العضلي الذي يبذله الرجل، لكن ملكية الأرض تبقى للرجال وقد تحرم منها النساء وتنسب مشاركتهن في قوى العمل إلى دور آخر في رعاية الأسرة والمنزل مع أن العمل في الأرض هو عمل اقتصادي بحت لا علاقة له بالرعاية.
على الرغم من هذه الصور النمطية ليست سوى معتقدات وتوقعات يركبها المجتمع حول ما هو مقبول أو غير مقبول من النساء والرجال، إلا أنها تؤكد أن هذه التقسيمات الاجتماعية تؤثر في تصوراتنا عن أنفسنا وتعكس في دوائرها سلوكياتنا، فنمارس أفعالاً ونهيكل بنى اجتماعية واقتصادية تميز بين النساء والرجال بدون تفسيرات منطقية أو حتى بتفسيرات مغلوطة لتحقيق مصالح لفئات دون أخرى في المجتمع، دون أن يرتبط هذا التمييز بأي معطيات حقيقية متعلقة بفروقات بين الجنسين أو النوع الاجتماعي.
تكرار هذه السلوكيات يحولها إلى أعراف اجتماعية وتتغير أفعال وسلوكيات وبنى عبر الزمن بتغير المصالح مع أنها كانت معتبرة سابقاً مرتبطة فقط بكون الطفل قد ولد رجلاً أم امرأة، فعلى الرغم من أننا نجد الكثير من احتفالات كشف الجنس للمولودين أو المولودات الجدد تزخر بألوان محددة حيث الأزرق للذكور والزهري للإناث إلا أن هذا التمييز اللوني جديد ولا علاقة له بأي تفضيلات أو اختلافات جنسية أو حتى جندرية.
لم يكن لهذا التمييز وجود قبل نهاية الحرب العالمية الثانية وإنما ظهر بحملات تسويقية موسعة لزيادة استهلاك ملابس الأطفال التي كانت قبل ذلك موحدة الألوان وحتى التصميمات.
حتى بداية القرن العشرين التعليم كان للرجال دون النساء في المجتمعات العربية، إلا أن تغيراً في المصالح الاقتصادية كالحاجة إلى العمالة والخسائر في القوى العاملة من الرجال بنتيجة الحروب أتاح وصولاً أكبر للنساء إلى فرص التعليم، الذي وضع على مقاس الأعراف الاجتماعية، فسمح للنساء بتعلم معارف دينية أساسية والقراءة (فك الخط)، وبعدها تعلم حِرَف تعتبر نسائية أو منزلية مثل الطبخ والخياطة.
فيما بعد تغيرت المصالح الاقتصادية لصالح النساء وازدادت حاجة المجتمع إلى وصولهن للتعليم وبالتالي مشاركة أكبر في قوى العمل والتعليم أصبح إلزامياً، إلا أن الوصول إلى فرص التعليم للنساء السوريات مازالت محدودة بمعيقات متعلقة بأعراف اجتماعية جندرية.
لنجد أن النوع الاجتماعي يتشكل من سلوكيات وممارسات وبنى يفرضها المجتمع، أحياناً نختار الامتثال لها، ونجبر عليها أحياناً أخرى، ليكون الجندر هوية متغيرة يؤثر فيها السياق والاقتصاد والثقافة.
فجوات في العدالة والمساواة
تشكل أعراف المجتمع الجندرية ضغطاً على الرجال والنساء معاً، فتتحول إلى دوافع امتثال تؤثر على سلوكياتنا وقراراتنا في المجتمع، لتعزز مصالح الفئات التي خلقت هذه الأعراف لمصلحتها بغض النظر عن الجنس أو النوع الاجتماعي.
تتحول هذه الأعراف إلى دوافع نزاع اجتماعي ينشأ بين الرجال والنساء ويخلق علاقة لا يمكن لها إلا أن تكون تسلطاً من طرف على آخر، فتحديد ما هو مقبول للنساء والرجال في المجتمع يعكسه أفراد المجتمع بسلوكيات تعزز فيه كل الوقت هذه الأعراف.
الرجل الذي لا يكون صوته عالياً أو المرأة التي تحاول دخول سوق عمل يحتكره الرجال، يواجهان معاً الكثير من الأحكام والمعيقات الناتجة عن امتثال بقية الأفراد لما هو مقبول أو غير مقبول للنساء والرجال في المجتمع.
هذا الامتثال يشكل أداة للتسلط واستغلال اقتصادي واجتماعي للممتثلين والمزيد من الخسائر الاقتصادية والاجتماعية للفئات الأخرى.
يتحول هذا التمييز إلى فجوات بين مواطنين ومواطنات يفترض تساويهم في الحقوق والواجبات، فالجندر لا يحدد الهوية الاجتماعية فقط وإنما يحدد مجموعة الحقوق التي يمكن أن نتمتع بها سواء كنا رجال أو نساء.
إن وجود حقوق عامة للرجال والنساء السوريات لا ينفي وجود حقوق يتمتع بها الرجال السوريون ولا تتمتع بها النساء السوريات، وتتحول هذه الحقوق إلى فجوات في العدالة والمساواة نذكر منها:
الرجل السوري يمكن أن يعطي الجنسية السورية لأبناءه حتى لو كانت زوجته غير سورية أما المرأة السورية فلا يمكن أن تنقل جنسيتها لأولادها في حال تزوجت من غير السوري.
الرجل السوري يمكن أن يجري طلاق بإرادة منفردة بينما المرأة لا يمكن أن تقوم بخلع زوجها، والذي هو بمثابة الطلاق بإرادة منفردة دون موافقة الزوج.
وهناك حالات أخرى من التمييز بين الرجال والنساء لا تنعكس فقط على الحياة اليومية وإنما بالقوانين والأعراف والحقوق لتتثبت كفجوات في قوانين الأحوال الشخصية والقوانين الجنائية وقانون العمل والجنسية لنجد آثارها تنعكس على حالة ومشاركة النساء في جميع نواحي الحياة الاجتماعية.
"لا يمكننا أن نقارن بين الأنثى والذكر في النوع البشري إلا من الزاوية الإنسانية ولا يُعرف الإنسان إلا بأنه كائن غير معطى وأنه يصنع نفسه بنفسه ويقرر ما هو عليه"
سيمون دي بفوار Tweet
على الرغم من فرض الأعراف إلّا أنها متغيرة، وممكن تعديلها بسرعة نسبياً وفقاً لمزاج أصحاب المصالح، ومع ذلك يعيقون انعكاس التغييرعلى الهويات بشكل كامل.
فمن المقبول تغير أدوار النساء والرجال اقتصادياً لكن يظل لهذا التغيير أثمان تدفعها الفئات الأقل حظاً، فإذا كان النوع الاجتماعي هوية اجتماعية تؤثر على فهمنا لذاتنا وتصوراتنا وامتثالنا لطريقة الحياة في المجتمع، حتماً يكون هوية بالصيرورة، في بعض أجزاءها مكتسبة وفي بعض أجزائها متغيرة ومرتبطة بقرار كل فرد وبالقرار الجمعي الذي تفرضه القوى الاجتماعية.
نستطيع التعامل مع النوع الاجتماعي بمجموعة جديدة ومختلفة من القرارات والخيارات الفردية والاجتماعية كلما دعت الحاجة أو المصلحة أو كلما تحرك المتضررون من هذه السلوكيات والبنى.
تبقى أسئلة كثيرة مُلحة، ومدعاة للحوار الدائم في دوائرنا الكبيرة والصغيرة :
لماذا لا نعمل ليعطينا المجتمع هوية اجتماعية متشابهة بين الرجال والنساء؟ ما الذي يعيق أن تكون حقوق النساء مساوية لحقوق الرجال؟ لماذا لا نحرص على أن يتمتع النساء والرجال بالفرص والنتائج العادلة في المجتمع؟