كنا قد تحدثنا في المقال الأول عن منهج التواصل اللاعنفي (التعاطفي) وما هي أهدافه وركائزه.
وفي هذا المقال سنعمل على شرح الخطوات الأربعة للمنهج وكيف يمكننا استخدمها لمساعدتنا في صياغة لغة تساعدنا على العطاء من القلب، لغة تمكننا من تجاوز دوائر العنف التي فتكت مجتمعاتنا وتجعلنا نبقى متصلين مع طبيعتنا الشفوقة الرحيمة.
المكون الأول لمنهج التواصل اللاعنفي: الملاحظة
الملاحظة هي وصف ملموس للتصرف أو لعدم التصرف بطريقة قابلة للمشاركة، وصف ملموس يعني أي مدخل عبر الحواس.
يمكننا استخدام العبارات مثل “عندما: أرى، أسمع، أتذوق، أتذكر” كمدخل لحديثنا.
(بطريقة قابلة للمشاركة) وتعني أنها مفهومة بالنسبة لكل الأشخاص، كمثال: هنالك فرق بين أن نتهم شخص كأن أقول “إن جودت غاضب”، أو أن أقول “إن إبراهيم رمى جهاز التلفاز على الأرض”.
هناك فرق كبير بين وصفي للسلوك الحاصل أمامي وبين اتهامي، أن أعطي وصف لتصرف معين هذا يساعد الآخرين في أي مكان في العالم أن يفهموا تماماً ما حصل.
وكما وصفها جدو كريشنامورتي:
"إن الملاحظة من دون تقييم هي أسمى صورة للذكاء الإنساني."
جدو كريشنامورتي Tweet
وكلما كان لدي أحكام وتوقعات تمنعني أن أرى الواقع بأقرب صورة فكل شخص يرى الواقع من وجهة نظره، وبداية مشكلاتنا وتوتراتنا تأتي في أغلب الأحيان من طريقة رؤيتنا للأمور من وجهة نظرنا الشخصية التي قد لا تكون واقعية أو حقيقية، لذلك نقول إنه لا يمكننا أن نرى الواقع كما هو وإنما هذا إدراكنا نحن للواقع ووجهة نظرنا وهذا ما يمكن أن يخلق الكثير من الأرضيات للتوترات بين بعضنا البعض.
مثال آخر الذئب (رمز التواصل العنيف حسب المنهج) يقول: “أنت تأخرت كثيراً اليوم عن موعدنا” (هنالك تأخرت وكثيراً)، بينما الزرافة (رمز التواصل غير العنيف) تقول “أنت اليوم قد أتيت بعد الموعد ب 11 دقيقة” وهذا ما يميز لغة الزرافة عن الذئب.
المكون الثاني لمنهج التواصل اللاعنفي: المشاعر والأحاسيس
مشاعرنا محدودة مثل نغمات البوق كما يصفها رولو ماي وهو محلل نفسي وهذا ما نراه أيضا في فيلم Inside out والذي كان من وراءه الدراسة المسحية التي قام بها بول إيكمان والذي يتحدث عن 5 مشاعر وهي الفرح، الحزن، الغضب، الخوف، الاشمئزاز، كمشاعر أساسية.
الشعور أو الإحساس هو الخطوة الثانية، يعني أنا أعبر عن ماذا أشعر أو ماذا أحس في الوقت الراهن وليس عن اعتقادات أو أفكار.
النقطة الأولى التي تساعدنا أن نميز بين الشعور والفكرة هو الضمائر المتصلة بعد “أن” كأن أقول أشعر أنكَ او أنكِ وهذا يحول التعبير عن الشعور للتعبير عن فكرة أو عن اعتقاد.
النقطة الثانية وهي تتعلق باستخدام بعض العبارات مثل “كأن” “كما لو كنت”
كمثال: أشعر أنني شخص فاشل، أشعر كأنني أعيش مع جدار.
النقطة الثالثة وهي استخدام بعض الضمائر والأسماء مثل: أشعر أن وسام قد تصرف بطريقة ملائمة.
والمكون الثاني وهو الأحاسيس: وكما قال يوجين غاندولان
"كل مشاعرنا المكبوتة تتحول إلى آلام جسدية."
يوجين غاندولان Tweet
الإحساس هو ما يتعلق بجسدنا هو ما يأتي لجسدنا من الخارج أو من الداخل مثل الألم الحرارة التوازن وهذا ما نطلق عليه إحساس.
وبالعودة للزرافة والذئب الزرافة تدرك مشاعرها وتعبر عنها بينما الذئب لا يعرف مشاعره وأحياناً لا يعبر عنها. وهذا هو الفرق ما بين لغة الزرافة والذئب في التعبير عن المشاعر والأحاسيس.
فالنقطة المهمة التي يجب الحديث عنها هي التمييز بين المثير والسبب فبحوارنا وعلاقاتنا الإنسانية إننا نحمل الآخرين مسؤولية مشاعرنا ولكن سلوك الآخر هو عبارة عن مثير وبينما السبب الحقيقي لمشاعرنا هو حاجاتنا نحن وتوقعاتنا كيف تلبى حاجاتنا.
المكون الثالث للتواصل اللاعنفي: الحاجات
وهو المكون الأساس في منهج التواصل اللاعنفي.
في هذا المكون نعبر عن حاجاتنا في الوقت الراهن. فإذا تحدثنا عن ملاحظتنا ومن ثم عن شعورنا تأتي بعدها الحاجة.
وهي ليست استراتيجية أو طريقة أو سياسة إنما حاجاتنا نحن. مشاعرنا وحاجاتنا كما يسميها مارشال “ما هو حّي فينا”.
وعيي لمشاعري يوفر لي فرصة أن أعرف حاجاتي بشكل أفضل ووعيي لحاجاتي يوفر لي فرصة أن أطلب الطلب الذي يلبي حاجاتي.
إن الألم الناتج عن عدم التعبير عن الحاجات من الممكن أن يؤدي بنا إلى الكآبة أو الاكتئاب. نتيجة الإشتراطات الثقافية التي تعلمنا وتعودنا ألا نعبر عن حاجاتنا وأن نبحث عن أشياء مختلفة عما يجري داخلنا.
لذلك وعينا بمشاعرنا يوفر لنا فرصة جيدة حتى نتعرف على حاجاتنا المرتبطة بهذه المشاعر. وحاجاتنا الملباة تولد لدينا مشاعر من الفرح والسعادة، وحاجاتنا غير الملباة تولد حزن وغضب وخوف، وعدم التعبير المستمر عن حاجاتنا سيؤدي بنا للكآبة أو الاكتئاب كما ذكرنا سابقاً.
يوجد عدة تحليلات للحاجات: تحليل مانفرد ماكس-نيف الذي حلل الحاجات في المجتمعات المتقدمة اجتماعياً واقتصادياً.
وتحليل ابراهام ماسلو الأكثر عمومية وشمولية في العالم.
ويوجد عدة تحليلات أخرى منها تحليل ماري كلارك وكلها يمكننا الاطلاع عليها.
التحليلات المختلفة تساعدنا لنكون واعيين أكثر لحاجاتنا وقادرين على التمييز إذا كانت حاجة أم لا، وما يساعدني على التمييز أيضا نقطتين:
الأولى: هي أن الحاجات هي بشرية عامة وكل البشر لديهم نفس الحاجات.
والنقطة الثانية: أن الحاجات ليست لديها مرجعية أي لا يمكنني أن أقول أنا أقوم بذلك بسبب.
فعندما أقول بسبب هذا يعني أنها استراتيجية وليست حاجة.
وكمثال:
المنزل أو المسكن يلبي حاجاتي الفيزيولوجية والأمان والانتماء والحب والتقدير والاحترام.
العمل ممكن أن يلبي عدة حاجات بنفس الوقت هذا ما يساعدني أن أميز بين استراتيجية أو طريقة أو سياسة وبين حاجة.
كمثال الزرافة تقول أنا بحاجة للدفء والراحة وأتمنى أن تغلق الباب إذا أردت.
المكون الرابع لمنهج التواصل اللاعنفي: الطلب
أهم نقطة تساعدنا على تمييز الطلب من التطلب هي انفتاحنا على سماع “لا” عن طلبنا، فإذا أتت “لا” من الطرف الآخر وكانت انفعالاتنا عالية نكون قد تطلبنا وليس طلبنا طلب إنساني.
ما يساعدني على صياغة الطلب 5 نقاط:
- أن يكون الطلب واضح يعني أن نتجنب الصيغة الغامضة وغير المباشرة مثل: هل من الممكن أن تكون جديّ هذا طلب غير واضح والآخر لا يعرف بماذا يمكن أن يجيب.
- أن يكون محدد يعني على شكل فعل أو تصرف معين للآخر قادر أن يقوم به.
- واقعي.
- قابل للتحقيق فيجب أن نطلب شيء الآخر أو نحن قادرين أن نقوم به.
- أن يكون مصاغ بشكل إيجابي فالطلب إذا كان مصاغ بشكل سلبي يحفز الآخر أن يرد بشكل سلبي،
الثقافة تعلمنا أن نطلب ما لا نريد بدل الذي نريده، والخبرة ترينا أن كل ما كنا واعين كلما زادت فرصة حصولنا على الطلب، وحتى نتأكد أن الشخص الآخر قد فهم ما نطلب يمكننا الطلب منه أن يعيد صياغة ما سمع، فإذا قبل نشكره مع تقدير ذلك وإذا لم يقبل نحاول أن نتعاطف معه.
من المهم جداً أن يكون طلبنا محمل باستفسار “ممكن” حتى نتأكد أن الطرف الآخر قد فهم الطلب وسيعمل على تنفيذه لأن هذا ما يجنبنا الكثير من الصراعات.
ومن المهم أيضا عندما نطلب طلب أن نحصل على جواب من الشخص الآخر إذا كان سينفذ الطلب أم لا.
وفي الختام منهج التواصل اللاعنفي كما ذكرنا سابقاً هو منهج بحاجة للتدريب والممارسة، ويمكننا الآن بدء تجربة ممارسة الخطوات الأربعة في خطابنا اليومي وحديثنا مع أنفسنا ومع الآخرين، وسنعمل في المقال القادم على شرح كيف يمكننا استخدام المنهج للتعاطف مع أنفسنا ومع آخرين.