الحكيم ريحان.. الميسر بالفطرة
كان ياما كان.. وفي سالف العصر حكايتنا.. لكل زمان ومكان
يحكى أن مملكة قديمة بعيدة، اشتهرت بالفنون والعلوم والازدهار العمراني والتجاري والنفوذ الواسع يحكمها ملك عُرِف بحبه للعلم ومجالسة العلماء، وكان همه وشغله الشاغل أن يرث أبناؤه شتى العلوم وأن يصلوا ليلهم بالنهار بحثاً وطلباً للعلم.
رياحاً ما لم تحرك سفينة الملك كما تشتهي، حيث أن ابنه الأكبر “الأوس” ذو الـ12 عاماً والذي يبني عليه الملك كل آماله كولي للعهد ووارثٍ للعلوم، لم تنفع معه كل محاولات الملك ومعلميه بأن يجعلوه شغوفاً بالعلم فتراه يهرب تارة إلى حجرات الخدم وأخرى يركض وتركض خلفه أفواج الحرس ليعيدوه إلى غرفة التعلم أو مكتبة القصر وإذا استسلم تراه يتثاءب ويغفو حتى يمل المدرس فيخرج خائباً.
أمر الملكُ المناديَ في الساحات بأن يجمع كل علماء المملكة وأدبائها ليعينوه على تعليم ابنه القيادة والإدارة ومنهج الحياة ومهاراتها وعلومها، بل وأمر بجائزة كبيرة من الذهب والفضة لمن يستطع إقناعه بالالتزام مع الملقن أكثر من شهر لكن كل المحاولات ذهبت أدراج الرّياح، إلى أن طلب ذات يوم “ريحان” -بستاني القصر- والذي كان يُعرف بالحكمة أن يقابل الملك بعد أن كان يشاهد كل يوم خلال هذه السنوات جولات الركض والهروب في أرجاء القصر من ملقني العلوم، وطلب من الملك أن يسمح لابنه أن يرافقه بضعة أشهر دون تدخل من الملك أو المعلمين وسيعيد له ابنه كما أنه ولد من جديد.
وافق الملك اليائس على طلب ريحان البستاني رغم صدمته وشكه وهنا بدأت الحكاية.
كان ريحان يطلب من “الأوس” أموراً لم تُطلب من ولي عهد قط، دون أن يملي عليه أو يلقنه أي أوامر أو دروس جاهزة معلبة فقد كان يطلب منه مثلاً حلب الأبقار ومساعدته في توزيع حليبها ومراقبتها وتدوين الملاحظات حول كميات الحليب والعلف وحالة الأبقار والأغنام الصحية وكذلك في أمور البستنة والدجاج والخيول والزّراعة وتوزيع الحصص والمخزون من الثمر والقمح وغيرها…
وكان “الأوس” يشعر بالمتعة العارمة ويقوم بكافة المهام الموكلة إليه بنشاط غير مسبوق.
جاء اليوم الذي ينتظره الملك بل تنتظره المملكة بأسرها، دخل ولي العهد بثقةٍ مرفوعَ الرأسِ بصحبة الحكيم ريحان وبعد أن أدى التحية برفقٍ واحترام قال: ((ألهمني وعلمني معلمي دون أن يعلمني، علوم النبات والحيوان والحساب والمنطق والإدارة وحتّى القيادة ومنهج حياة من تجربتي معه في الزراعة والدواجن وتوزيع المحاصيل والمخزون وإدارته بشكل رشيد وحكيم، والفلك وأحوال المناخ من رحلاتنا الليلية والنهارية، والطب وأحوال الجسد من كل نبات جمعته أو زرعته معه وأطعمنا به دواب القصر أو جففناه لعطاري المملكة، وبنى معي جسراً من الألفة والثقة من خلال حواراتنا اليومية لقد جعلني شريكاً في تعليمي لذاتي بل صانع رحلتي وقائد سفينتي و”يسر” لي درباً لهدفي لكني عبدته بنفسي.))
قال الحكيم للملك: إن ابنك يا جلالة الملك لا يحتاج ملقناً وعلوماً جاهزة مسلمة تُحشى في عقله، إنه يحتاج لأن يكون معلم نفسه في رحلة تعلمه وأن يتفاعل مع الموجودات ومكونات هذه الرحلة ويختبر بنفسه ويجرب.. وأنا “يسرت” له الطريق وكنت له المرآة ومساحة التعلم والشريك وليس السلطة والمحور، فأبدع ووصل للهدف.
لمَ (التيسير)؟
لأنه: “أشركني وسوف أفهم..”
التيسير لغوياً: عرف معجم المعاني كلمة تيسير بأنها التسهيل والتبسيط حيث يقال تيسير سبل النجاح أو تيسير الشيء أو الأمر أي تهيئته وإعداده وتذليل صعابه، وتهوينه وجعله ممكناً ميسوراً وسهلاً.
لو نظرنا إلى الشكل العام والتقليدي للتعلم فإننا نلخصه بأن المعلم أو المدرس هو المتكلم والملقن أما الطالب فهو المتلقي والناسخ والمستمع، هذا المنهج الذي يفترض أن المعلم يتمتع بسلطات مطلقة وأن الطلاب جاهلون هو نموذج غير مناسب وغير فعال لعملية التعلم التشاركي ويجعل عملية التعلم تذهب دوماً باتجاه واحد من المعلم للطالب بل على العكس من ذلك فإن عملية التعلم الشاملة والتشاركية تجعل كل مشارك جزءاً من هذه العملية وتمكّنه من الانطلاق في تفكيره وتفسيره وتحليله للأمور بحيث يعتمد على نفسه وتشجع هذه العملية البحث والتحليل النقدي لمواقف حياتية واقعية وتساهم في توحيد الجهود المبذولة لتحقيق هدف محدد وهذا ما يجعلنا نقول أن التيسير ليس فقط لتحفيز التعلم والتغيير بل أيضاً لأجل اتخاذ قرار جماعي أو الوصول إلى هدف ما. لذلك نقول أن مبادئ التيسير هي:
- الميسر هو دليل يساعد الناس على تناول عملية ما معاً، وليس مرجع الحكمة والمعرفة.
وهذا يعني أن وظيفة الميسر لا تكمن في إعطاء الآراء بل في استخلاص آراء أعضاء المجموعة وأفكارهم.
- يركز التيسير على كيفية مشاركة الأشخاص في عملية التعلُم أو التخطيط، وليس فقط على ما يتم إنجازه.
- الميسر حيادي ولا يتحيز أبداً.
"قل لي وسوف أنسى، أرني وسوف أتذكر، أشركني وسوف أفهم".
بنجامين فرانكلين Tweet
الجميع هو محور، منطلق ومستقر.. في عملية التيسير
في عملية التيسير لا يكون الميسر أو المعلم هو منبع التعلم أو المرجع المطلق أو المحور فقط والذي تدور حوله عملية التعلم أو اتخاذ القرار… بل إن كل متعلم أو مشارك هو جزء وركن أساسي ومحور بحد ذاته ويتشارك مع الجميع بالقوة والمساحة والمعرفة وبأن عملية التعلم أو اتخاذ القرار والوصول للهدف مرهون بالجميع ويتحقق من وإلى الجميع (الجميع هم المنطلق والمستقر والطريق في العملية).
في عملية التيسير يحرص الميسر على استكشاف الأفكار والاعتقادات المختلفة حول القضية الواحدة والبناء عليها ويحفز الجميع على المشاركة باختلاف وتفاوت قدراتهم وأفكارهم وتباين مستوياتهم وفاعليتهم.
إن الميسر هو قائد خفي تتجلى فيه صفات ومهارات وقيم القيادة نحو التغيير والهدف.
مبادرون والتيسير:
إن التيسير هو النهج الأساسي والأداة الجوهرية والمحورية في عمل مبادرون للوصول إلى التغيير المنشود والتي تطبق في كافة مفاصل العمل (ورشات تدريبية – اجتماعات فرق العمل – جلسات تطوير العمل والأقسام وأدلة البرامج – اجتماعات مع الشركاء..) لما للتيسير من دورٍ هام في إحداث الفرق الحقيقي من خلال البناء الجماعي وجعل التعلم تشاركياً وحقيقياً ومسؤولاً. وتقوم على الدوام بإعطاء الفرص للأفراد لامتلاك وشحذ هذه المهارة من خلال تصميمها وتطويرها لبرامج مهارات التيسير بمستوياتها الثلاث: مبتدئ، متوسط ومتقدم.
لفهم هذا الدور الهام للتيسير والميسر سنوضح عموماً من خلال التالي بعض أدوار الميسر:
- بناء علاقة قائمة على المساواة والتعاون مع المشاركين والحرص على إعطاء الفرص للجميع وتوضيح أن مسؤولية التعلم تقع على عاتق المجموعة بأكملها وليس على الميسر أو أفراد محددين.
- توفير أجواء تسودها الثقة والاحترام وتقبل اختلاف الآراء وعليه فإن الجلسة التيسيرية تكون بمثابة مساحة الأمان التي يعطي فيها المشارك رأيه ويظهر فيها مكنوناته.
- إدارة الحوارات والنقاشات من خلال عدة أنماط من الأسئلة فهناك أسئلة مفتوحة تشجع على التوصل إلى إجابات متعددة ومختلفة أو أسئلة تقود إلى هدف معين وتساعد على المضي قدماً نحو هدف تعليمي ويبني فيه كل سؤال على إجابة أو فقرة سابقة.
وهناك أيضاً الأسئلة التي لها طابع ذاتي وهي التي تهدف إلى الحصول على إجابات شخصية يرصد فيها الميسر مشاعر المشاركين أو آراءهم الشخصية وتقييمهم لشيء ما بينما الأسئلة المغلقة تستخدم للحصول على أجوبة محددة كـ “نعم” أو “لا”.
- الحرص على إشراك جميع المشاركين ومشاركة ذوي الأصوات الخافتة أو المهمشة والخجولة.
- توفير خطة لعملية التعلم أو اتخاذ القرار وسير العملية وصولاً للهدف والتجهيز والتحضير الدقيق لكل ما يلزم لتنفيذها.
- التأكد من توفير الاحتياجات اللوجستية اللازمة والبيئة الملائمة للجلسة أو الاجتماع والتّنسيق مع المعنيين بالموضوع.
- التعامل مع الصعوبات كالمواضيع الصعبة التي قد تثار وردود الأفعال وكيفية إدارتها أو المواقف الطارئة أو حتى أنماط الأشخاص المعيقين لسير الجلسة كالأشخاص صعبي المراس.
المنهجية التفاعلية.. ومبادرون
ولأن مبادرون تعتمد على المنهجية التفاعلية في التيسير فهي ترتكز في عملها التيسيري على أربعة عناصر من خلال:
- عقلية تعكس المواقف التعاونية لدى الميسر أثناء تيسير الجلسات.
- منهجية تفكير تؤكد على التّفكير الاستراتيجي للميسر من خلال اختيار عمل مناسب من أجل تحقيق الأهداف المرجوة.
- مبدأ المسؤولية المشتركة للنجاح.
- أدوات ومنهجيات السلوكيات التيسيرية من خلال استخدام الأدوات المختلفة التي تساعد المشاركين على بناء اتفاقيات وتفاهم حول المواضيع المطروحة.
الميسر.. معارف، قيم ومهارات
الميسر.. وعاء يأبى الامتلاء:
أيضاً هناك الكثير من الأدوار التي يلعبها الميسر لإتمام وإنجاح العملية التيسيرية قبل وأثناء وبعد العملية هذه الأدوار مبنية على مهارات عديدة فهو على الدوام باحثٌ ومطورٌ لذاته ومنفتحٌ على كلِ جديد (وعاء يأبى الامتلاء) ويجب أن يكون على دراية كيف يقيم مكوّنات العملية على مستوى المحتوى المقدم والأفراد وسيرورة الجلسة ويبني على تقييمات المشاركين ويرصد نموهم في رحلات التعلم ويقيس تطورهم أو مؤشرات وصولهم للهدف وتعديل خطته بما يلائم هذه التطورات أو التغييرات كما أن “قصص النجاح” أو الاستفادة من الأخطاء وتحليلها هي مهارة ملازمة للميسر الناجح.
كما يراعي الميسر جميع أنماط التعلم من خلال التعلم الفعال والتفاعلي في العملية التيسيرية فهناك من يتعلم بشكل أفضل عن طريق السمع وهناك من يتعلم عن طريق المراقبة والإلهام والبعض عن طريق التفكير المجرد والحوار والبعض الآخر عن طريق التطبيق العملي.
لذلك فهو يصمم الجلسة التيسيرية التي تهتم بكافة الأنماط المحتملة كما أنه يحرص على أن يتمثل القيم الحقيقية في عمله والتي يجب أن تنعكس في كل مفاصل العملية التيسيرية وتواصله مع الأفراد ويشجع عليها ويذكر بها دائماً فهو مؤتمن على خصوصيات الأفراد وآرائهم ومشاركاتهم، متواضعٌ غيرَ متعالٍ، يعمل دوماً على إشراكهم حتى بما يتعلق بهم وبشروط السلامة والأمان والراحة التي تخصهم، واستئذانهم عند التصوير أو مشاركة قصص النجاح والتغيير، كما أنه يجب أن يجسد الحالة الأمثل من احترام الآخر وتقبله وعدم الانحياز للأفراد الذين يتقاطعون مع أفكاره الخاصة ومعتقداته ويجسد أيضاً العدالة والمساواة من خلال تساوي الفرص والمشاركات والبناء التيسيري المشترك والتواصل الإنساني.
التيسير.. عقلية.. ونهج حياة
بالعودة إلى حكاية البداية عن ريحان الحكيم بل والكثير من الحكايا التي تستعرض الأشخاص الملهمين أو المعلمين أو القادة المجتمعيين الذين أحدثوا الأثر الإيجابي الحقيقي وحفزوا التغيير المستدام وبنوا التوافقات بين الأفراد وألهموهم وكانوا داعمين منفتحين متعاونين ومُصغِين، ومساحات أمان وإبداع لهم فإننا نجد أن هذه الشخصيات جميعها تتقاطع بـ “العقلية التيسيرية” والتي تجمع قيماً وسلوكاً وخبرةً ومهارات كل ما ذكرناه سابقاً واستعرضناه ضمن المقال وهذا غيض من فيض، لأن التيسير هو “نهج حياة” ومدرسة وليس مهارة تطبق فقط ضمن قاعة الاجتماع أو التدريب.
بمناسبة أسبوع التيسير العالمي فلنمنح ذواتنا الحقيقية فرصة لتجلي جمالها وإبداعاتها ولنكن هذا الجسر للآخرين وكل عام وأنتم الخير واليسر والتيسير.
إعداد: منار عبود
أيضاً عن التيسير: