في مدينة اختلطت بها الأصوات، وحفرت في كل زاوية منها أخاديد الدمار لتغدو أنقاضاً تشهد على ماض كان يوماً حقيقة، جلست امرأة تتأمل حطام ذكرياتها، تبدو تلك الذكريات وكأنها لوحات حرة الألوان، طمستها الظلمة، ثم سلبتها الرياح ضياءها، لم يبقى منها إلا الرماد ولم يعد في الأفق متسع لأخطاء تتناسل منها أوجاع جديدة، وخيبات قد تهوي في غياهب الألم، فالجميع يسير بخطى حذرة و يتجنب عبور أبواب قد تفضي به إلى مصير أكثر قسوة.
ورغم كل ما مضى يبقى وميض الأمل الذي انتفض ونهض بعد ليل طويل كما ينهض طائر الفينيق من رماده ليعيش بمستقبل جديد، فالنهوض هنا لم يعد وعد خافت يتردد بل بات نبض يشق طريقه وييسر إلى آفاق جديدة، في هذا المقال: “حين يزهر الرماد”، نستعرض كيف يمكن للنصوص القانونية أن تشكل أداة تمكينية للنساء في سوريا ما بعد ولادتها الجديدة، لتزهر وتصبح رمزًا للأمل ومفتاحاً لمستقبل جديد.
ما بعد صمت المدافع: أدوار النساء
عند قراءة تجارب التاريخ، نلحظ كيف تتبدل أدوار النساء على امتداد الأزمنة والأماكن، تحت تأثير عوامل ثقافية ودينية واجتماعية. ولطالما كانت الثورات والنزاعات عاملاً حاسماً في إعادة تشكيل البُنى المجتمعية، بما ينعكس بوضوح على أوضاع النساء ويظهر هذا التغيير جلياً عندما نقارن الأوضاع القانونية للنساء في الدول التي شهدت صراعات ممتدة.
ففي أمريكا الجنوبية، على سبيل المثال، خاضت كولومبيا نزاعاً مسلحاً لسنوات طويلة سبقه حراك ثوري يطالب بالإصلاح، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، شرعت الدولة بإقرار تشريعات تهدف إلى دعم النساء وحمايتهن قانونياً. ورغم التحديات السياسية والاقتصادية التي واجهت عملية التطبيق، بُذِلَت جهودٌ عديدة لتمكين النساء المتضررات من النزاع، سواءً على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي، كما أُفسِح المجال أمامهن للمشاركة في عمليات السلام وإعادة الإعمار. ومع كل هذا التقدم، ما زالت النساء تواجهن تحدياتٍ تتعلّق بالحماية من العنف الجنسي والتمثيل العادل في المناصب القيادية.
وعلى الجانب الأوروبي، تُقدّم ألمانيا نموذجاً آخر بعد الحرب العالمية الثانية. خلال تلك الفترة، تعرضت النساء لانتهاكات واسعة، لا سيما في عامي 1945 و1946، حيث واجهن اعتداءاتٍ جنسية من قِبَل القوات المنتصرة، وبخاصة القوات السوفييتية. تركت تلك الاعتداءات جراحاً نفسية واجتماعية عميقة، ولم تكن هناك آليات قانونية واضحة لحماية النساء أو لمحاسبة الجناة واعتمدت المجتمعات آنذاك على المبادرات المحلية والدينية لتقديم الدعم، وبعد مرور الزمن وتزايد الوعي بمعاناة النساء، بدأت الحكومة الألمانية تقديم تعويضات للمدنيين المتضررين، ووضع حجر الأساس لحماية حقوق المرأة ضمن الإطار القانوني الألماني، وهو ما هيّأ لمساهمات على مستوى التشريعات الدولية.
أما في البلدان العربية، فتُمثل تونس نموذجاً متميزاً إذ استطاعت عقب فترات من الاحتقان السياسي والنزاع الداخلي أن تُعزّز حقوق النساء وتحقق إنجازات بارزة وغدت بذلك نموذجاً يُحتذى في العالم العربي في مجال التشريعات المتعلقة بحقوق المرأة، سواء في ما يرتبط بالطلاق أو التعليم أو العمل. كما استلهمت بعض الدول العربية من نجاحها سبلاً واضحةً لتفعيل دور النساء بعد فترات من الثورات والاضطرابات.
في الغياهب: الإطار القانوني لحقوق النساء السوريات
شهدت المرأة السورية تحديات وتحولات جذرية خلال العقد الماض، تعرّضت النساء خلاله للعديد من الانتهاكات على كافة وواجهت الكثير من أشكال العنف، بما في ذلك العنف الجنسي والجسدي والنفسي والاقتصادي، فضلًا عن التهجير والنزوح الداخلي والخارجي والاعتقال والتعذيب. وتشير الإحصائيات إلى أن النساء يٌشكلن أكثر من نصف عدد النازحين السوريين، وكثيراتٌ منهن فقدن أفراد من أسرهن.
من الصمود إلى الريادة: أدوار النساء السوريات في مرحلة الولادة الجديدة
يطفو إلى السطح سؤال جوهري: ما هي الأدوار المحتملة للنساء السوريات في المرحلة القادمة؟
وللإجابة كان لا بدّ من قراءة التجارب السابقة، خصوصاً تلك التي تقترب ظروفها من الوضع السوري، وتحليل السياق الراهن والمستقبلي، ثم التقاط نقاط التقاطع لصياغة أدوارٍ جديدة وبعد الكثير من البحث نرى أن أدوار النساء تتمحور في المرحلة المقبلة بـ:
- بناء السلام والمصالحة المجتمعية: تؤكد معظم الدراسات والتجارب الدولية أن إشراك النساء في مفاوضات السلام يعزز فرص نجاح تلك المفاوضات واستدامتها، نظرا إلى المنظور الشامل الذي تطرحه النساء، والذي يشمل العدالة الاجتماعية وضمان الأمان للجميع.
- توثيق الانتهاكات والعمل الحقوقي: قامت النساء السوريات بدور محوري في توثيق الانتهاكات التي حدثت خلال سنوات الحرب، مما يساهم في حفظ الذاكرة الجمعية ويشكل أساسا لعمليات العدالة الانتقالية. ينبغي تعزيز هذا الدور من خلال تدريب النساء على استخدام الأدوات القانونية والحقوقية، لتمكينهن من المساهمة في محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وضمان عدم تكرارها.
- القطاعات الاقتصادية وريادة الأعمال: للنساء دور في قيادة المشاريع الصغيرة والحرف اليدوية والصناعات المحلية، كما سيشكلن نسبة مهمة من قوة العمل المنتجة، نظرا لخبرتهن التي اكتسبنها خلال السنوات الماضية وقيادتهن كثيرا من الأنشطة الاقتصادية في غياب الرجال أو نزوحهم.
- المشاركة السياسية والمجتمعية: حيث ستظهر السنوات القادمة رغبة متصاعدة للنساء في أن يكن جزءا أساسيا من المشهد السياسي وصياغة السياسات العامة، بما يضمن تمثيلا حقيقيا وفعالا للمرأة.
- إصلاح التعليم وتوجيه الأجيال: للنساء دور حاسم في تطوير المناهج التعليمية لتعزيز قيم السلام والعدالة والمواطنة، إضافة إلى تشجيع الأجيال على تبني ثقافة الحوار واحترام الآخر.
- الدعم النفسي والتعافي المجتمعي: للنساء قدرة فطرية على تقديم الدعم النفسي والاحتواء، وبخاصة اللواتي عايشن مرارة النزوح وفقدان المقربين. يستطعن أن يكن سندا معنويا في تعافي المجتمع من آثار الحرب.
- الدور القانوني والتشريعي: فالنساء ستكون محوراً أساسياً لبناء مجتمع ديمقراطي شامل. وستكون جزءاً من عمليات إصلاح القوانين لتشمل ضمان المساواة وحمايتهن من جميع أشكال العنف والتمييز.
نبراس المستقبل: التطلعات لنصوص وإجراءات قانونية داعمة للنساء السوريات
والسؤال اليوم كيف ستكمل النساء مسارها؟
وماهي النصوص القانونية الكفيلة بتحقيق ذلك؟
لا ريب أن النصوص القانونية هي العمود الفقري لتقدم المجتمعات ومن الضروري العمل على نصوص تبلور الأدوار المستقبلية للمرأة السورية وتضعها في إطار واضح والتي من الممكن العمل على العديد منها والتي أبرزها:
- دستور جديد: يشكل حجر الزاوية في عملية الانتقال السياسي، بحيث يضمن الحقوق الأساسية لكل المواطنين ويعزز من الفصل بين السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية). وحقوق النساء ويضمن مشاركتهن الفاعلة في الحياة السياسية والاجتماعية. يجب أن تكون النصوص القانونية واضحة حول كيفية حماية حقوق النساء وحمايتهن من جميع أشكال التمييز.
- قانون الأحزاب: يضمن تعددية حزبية سياسية حقيقية مع ضمان أن تكون الأحزاب السياسية أكثر تنوعا وتمثيلاً لكافة الفئات، بما في ذلك النساء. من خلال وجود تمثيل نسائي في الأحزاب السياسية، ستكون النساء قادرات على التأثير الفعلي في القرارات التي تتخذ على مستوى الدولة.
- قانون الجمعيات: تعد الجمعيات والمؤسسات الأهلية من أهم القوى في المجتمع المدني، التي تساهم في بناء الدولة الحديثة. ويجب أن يتيح القانون للجمعيات النسائية المجال للعمل بحرية وبدون قيود، مع تعزيز دور المرأة في العمل الأهلي والخيري والثقافي. كما يجب أن تضمن التشريعات عدم التدخل الأمني أو البيروقراطي في عمل الجمعيات، ما يسهم في بناء بيئة دعم للمبادرات النسائية وتطوير قدرات المرأة على مواجهة التحديات التي قد تواجهها، وما يضمن اجراء حقيقي لحماية بانيات السلام
- قانون العدالة الانتقالية: لا شك أن قانون العدالة الانتقالية هو الأساس لمصالحة وطنية شاملة بعد النزاع، ويجب أن يتضمن الآليات الخاصة بمعالجة الانتهاكات التي تعرضت لها النساء خلال سنوات الحرب. من الضروري أن يشمل القانون معايير واضحة لمحاكمة مرتكبي الجرائم ضد النساء وتقديم تعويضات للضحايا، إضافة إلى تعزيز دور النساء في العملية الانتقالية.
- قانون الانتخابات: من أجل ضمان مشاركة النساء في صنع القرار على جميع المستويات، يجب أن يتضمن قانون الانتخابات فقرات تضمن وجود تمثيل نسائي ملائم في الهيئات التشريعية. وهذا يمكن أن يشمل تخصيص نسب من المقاعد أو فرض قوانين تضمن أن القوائم الانتخابية تتضمن تمثيلًا نسائيًا متساويًا مع الرجال. وتجربة تونس في ضمان التناصف بين الجنسين في القوائم الانتخابية قد تكون نموذجًا يحتذى.
- قانون الإدارة المحلية: يجب أن يعزز قانون الإدارة المحلية اللامركزية، مع منح النساء في المناطق المختلفة الفرصة للمشاركة في اتخاذ القرارات المحلية، بما يساهم في بناء الدولة السورية على أسس عادلة ومتساوية. يجب أن يكون للنساء دور فعال في المجالس المحلية لضمان تلبية احتياجاتهن الخاصة داخل مجتمعاتهن.
بالاضافة إلى مجموعة من الإجراءات التنفيذية كتخصيص حوافز ضريبية وقروض ميسرة للمشاريع التي تقودها النساء لتشجيعهن على المشاركة الفعالة في الاقتصاد، كما يجب العمل على ضمان تعليم الفتيات وتطوير قدراتهن ومهارتهن، ونهاية وضع إجراءات ونصوص صارمة لعدم التمييز على أساس الجنس في جميع المجالات.
خارطة الغد: خطوات العمل للوصول إلى نصوص قانونيةٍ تدعم أدوار النساء
إنّ إصلاح المنظومة القانونية في سوريا بعد سنوات يستلزم خطة متكاملة تأخذ في الاعتبار التحديات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وتبدأ هذه الخطة بمراجعةٍ شاملة لكل التشريعات التي تمس حقوق النساء، واستنادها إلى الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW)، لضمان انضباط النصوص مع الالتزامات العالمية.
تلي ذلك مرحلة وضع نصوصٍ قانونية جديدة تلائم ظروف البلاد وتطلعات النساء، على أن تتم صياغتها بالتشاور مع المجتمع المدني والمنظمات النسوية، لضمان تمثيل حقيقي لأصوات النساء واحتياجاتهن الفعلية.
كما يجب العمل على إنشاء هيئة مستقلة تُعنى بحقوق المرأة، تعمل بوصفها جهة ضامنة لتنفيذ الإجراءات والتشريعات المتعلقة بالنساء وتراقب حسن تنفيذها، مع إمكانية تعديلها كلما دعت الحاجة.
ختاماً، سنشهد ميلاد صورة جديدة للمرأة السورية، لتصوغ فصلاً جديداً من فصول إرادتها التي لا تنطفئ، والتي ستكون النساء السوريات ركناً رئيساً في مسيرة تغييرها حاملة مشعل التجديد والإبداع، وراسمة معالم مستقبل أكثر عدالة وازدهارا وتنمية.
هذه النساء لن تكتفي بأن تكون شاهدة على زمن جديد، بل ستكون في صميم أحداثه، ملهمة ومصممة على جعل الحياة تزهر من قلب الرماد.
مع كل زهرة ستنبت من هذا الرماد قصة صمود... قصة إرادة لا تعرف الانكسار... قصةٌ لمستقبل مشرق ستصنعه النساء.
رولا باش إمام Tweet