"لا يحتاج الأمر منك أن تنتمي لفريقٍ تطوعي حتى تمد يد العون، فالتطوع منهج حياة"
إنها إحدى العبارات وعلى بساطتها استطاعت أن تلفت نظري لما لم أفكر به سابقاً، هل يجب أن أنتمي لفريقٍ تطوعي كي أقوم بالمساعدة؟
تبدو الإجابة بديهية جداً لكنني أعود قليلاً بالذاكرة إلى الخلف، إلى الحملات التي كنا نقوم بها في الجامعة من تشجيرٍ وتنظيف، وحتى تلك التي واظبنا على ممارستها في المدرسة من تأسيس مجلة الحائط أو احتفالٍ بعيد المعلم، جميعها كانت ناتجةً عن حاجةٍ لسد فجوةٍ ما إلى أن يبادر أحدنا فيسبقنا درجةً على سلم العطاء.
وهكذا من الممكن لموقفٍ عفوي أو مبادرةٍ صغيرة أن تجعل منك مؤسساً لمجتمعٍ مدنيٍ في محيطك وفاعلاً به، الأمر يلح كحاجةٍ لا يسدها سوى الإحساس بالمسؤولية وحس المبادرة.
مفهوم المجتمع المدني:
ينص المفهوم الأساسي للمجتمع المدني على دراسة المجموعات التطوعية المستقلة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، أي أنه مجموعةٌ واسعة النطاق من المنظمات غير الحكومية وغير الربحية التي تثبت وجودها في الحياة العامة، وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها أو غيرهم من أبناء المجتمع استناداً إلى اعتباراتٍ أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو دينية أو خيرية.
كذلك يشير مصطلح المجتمع المدني إلى حيز المجتمع المنظم الذي يعمل مستقلاً عن الحكومة والقطاع الخاص، ويشمل مجموعةً واسعةً من الجهات من أهمها المنظمات الدولية العاملة في مجال التنمية، والمبادرات الشعبية والأشكال التقليدية للأحزاب والروابط، والتي قد تشمل النقابات العمالية ومنظمات حقوق الإنسان والمؤسسات التقليدية وجمعيات الرعاية الاجتماعية.
المجتمع المدني السوري:
يتفرد المجتمع المدني السوري بخاصيات مستوحاة من التطور التاريخي المميز الذي تتالى عليه بشكلٍ يغاير تشكل المجتمعات المدنية الأخرى، فقد تنامى تدريجياً نتيجة حاجةٍ ملحة ليغطي قطاعاً كبيراً من الخدمات، ويمكن رصد بدايات التشكيلات التطوعية الأهلية منذ نهاية القرن الثامن عشر في سورية وتحديداً بتأسيس أول جمعية أهلية “جمعية ميتم قريش الخيرية”.
لم يكن نشوء مثل هذه المجتمعات رفاهية بقدر كونه ضرورةً لتلبية الحاجة المجتمعية على مستوياتٍ عدة وخاصةً في زمن الحرب ونتيجة الفجوة الناجمة عن انشغال مؤسسات الدولة بتأمين الأمن والسلم.
على المستوى الإغاثي:
نجد عدداً لا بأس به من الجمعيات المتخصصة بتأمين مستلزمات المعيشة التي تعمل على رفد الأسر محدودة الدخل بما يضمن لها حياةً كريمة، والباحث في مجال العمل المدني الإغاثي يلاحظ غلبة الطابع الخيري على منظمات المجتمع المدني في بداية تشكله في سورية كدور الأيتام وجمعيات دعم الأسر محدودة الدخل، التي تضاعف عددها بنسبة تجاوزت 100%، ففي حين بلغ عددها 462 جمعية في عام 1999، وصل إلى 567 جمعية في نهاية 2012، وهذا يعد مؤشراً واضحاً على زيادة الاهتمام بها وبدورها.
على المستوى الاجتماعي:
قامت هذه المجتمعات بنقلةٍ نوعية على المستوى الاجتماعي حيث عملت وبجهودٍ حثيثة على دراسة حالة المجتمع وتحديد احتياجاته، من ذلك تقديم خدمات الدعم النفسي، وبرامج دعم الشباب في سوق العمل بهدف تقليص الفجوة بين الحياة الجامعية والحياة المهنية، من خلال تدريبات وورشات عمل تسهم في خلق بيئة مدنية مناسبة للحوار المجتمعي، بالإضافة إلى فتح باب المشاركة فــي الأنشطة المدنيــة ذات البعــد الاجتماعــي ويندرج ضمنها الممارسات المدنيــة كالمشـاركة فـي الندوات الحوارية الخاصة بمواضيع المواطنة، أو الحشد للقيام بحملات المناصرة لقضايا اجتماعيـة معينـة كالعنـف ضـد النسـاء، أو العنـف ضـد الأطفـال.
على المستوى التنموي:
نجد الاهتمام بمشاريع تمكين النسـاء من خلال ورشات التدريـب المهنـي، وبرامج دعـم المشـاريع الصغيـرة، بهدف المساعدة في اكتساب مهارات مهنية معينـة، كذلك المشـاركة فـي الأنشطـة المدنيـة ذات البعـد التعليمـي، كمـا فـي تقديـم الخدمـات التعليميـة للأطفـال المتسـربين مـن المـدارس، أو خدمـات دعـم تعليـم الأطفـال إلـى جانب التعليـم الرسـمي، أو تقديـم التوعيـة للأهالي بضرورة التعليم.
أهمية المجتمع المدني:
يحاول يومياً المجتمع المدني بكافة أشكاله حماية حقوق الإنسان وتحسين واقع الفئات التي تعاني من التمييز والحرمان، وذلك على اختلاف مسمياته من منظمات غير حكومية، نوادي طلابية، نقابات، جمعيات خيرية، دور رعاية أيتام، وفي نفس السياق فإنها تلعب أيضاً دوراً مهماً فى الدفاع عن حقوق المواطن الأساسية كحق السكن والتعليم والصحة والعمل مما يساهم فى مواجهة الأعباء وتخفيف الضغوط عن الحكومة لتحقيق العدالة والمساواة واحترام الكرامة الإنسانية، فضلاً عن أن قيامها على التطوع الإرادي يجعل من حس المبادرة والرغبة في تحسين الواقع الحافز الأعظم وراء العمل مما يعزز قيمة المواطنة.
دور المجتمع المدني:
في معظم دول العالم تؤدي منظمات المجتمع المدني دوراً مهماً في أوقات الحرب والسلم على السواء، ولكن أهمية هذا الدور تزداد ازدياداً كبيراً في أوقات الأزمات والأوبئة، وقد شهدت دمشق على سبيل المثال في ظل تفشي وباء كورونا ولادة مبادرة مجتمعية تطوعية باسم “عقمها” تهدف إلى تقديم الخدمات الطبية، بالإضافة إلى نشر ثقافة النظافة الشخصية والعامة وأهمية الوقاية، وكذلك تأمين الأدوات اللازمة للمرضى من أسطوانات أكسجين أو كمامات أو أدوية عن طريق جمع التبرعات وبجهود عدد كبير من المتطوعين، وقد ألهمت هذه المبادرة مجموعات شبابية أخرى في مناطق مختلفة من سورية، فسرعان ما أصبح لدينا مبادرات مشابهة في كل من حمص وطرطوس واللاذقية والسويداء والقامشلي تحت اسم “عقمها”.
وحسب الباحثة الألمانية “Thania Paffenholz & Christoph Spurk” في دراستها عن المجتمع المدني يتلخص دور المجتمع المدني بسبع وظائف أساسية في عملية بناء السلام: توفير الحماية، ورصد انتهاكات حقوق الإنسان، وتعزيز الروابط الاجتماعية، والحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي، والتوسط في مبادرات السلام، وتقديم الخدمات المجتمعية.
في الخلاصة ممارسة العمل المدني في ظل بيئة متغيرة باستمرار أمرٌ ليس بالسهل، لكن درجة القابلية للتأقلم والاستجابة لدى المجتمع المدني السوري أثبتت نفسها، من ناحية تنفيذ المبادرات أو الطرق الأفضل لذلك من جهة، ومن ناحية الاستجابة للتحديات والتعامل معها من جهة أخرى، فضلاً عن إمكانية التوزع حسب مستويات الحاجة المجتمعية بمختلف أنماطها إغاثية وتنموية وتوعوية، وهناك أمثلة لا حصر لها عن الحلول الإبداعية والمبتكرة بالإضافة إلى الديناميكية في الاستجابة للمتغيرات.