يعتبر مفهوم “العنف” واحداً من أهم وأعقد المفاهيم المطروحة لأنها تمتد في عمق البشرية. ومع الأسف فإنه موجود في كل المجتمعات والطبقات دون استثناء وفي أدق التفاصيل وأصغر المواقف.
تُشير منظمة الصحة العالمية في تحقيقها الخاص بالإصابات والعنف لعام 2008م إلى أن عدد الوفيات الناتجة عن العنف في العالم تقع بحدود 5 ملايين نسمة سنوياً، بمعدل يقارب نسبة 9% بين مجموع الوفيات كل عام، ولفهم العنف علينا فهم أساس تشكله ومنشأه ألا وهو الدماغ.
وعليه فإن حاجتنا تكمن في معرفة آلية فهم الدماغ للمدخلات التي يترجمها بسلوكيات عنيفة!
وكيف يمكننا أن نتحكم بالاستجابة لهذه المدخلات وتدريب أدمغتنا على نمط الاستجابة الأفضل، في سعينا للحد من العنف وآثاره.
مسارات عمل الدماغ
لنتخيل أن الدماغ البشري هو المعمل الذي يتشكل فيه العنف. ولفهم آلية تشكل العنف بشكل أبسط سنتعرف على المسارات الموجودة داخل الدماغ البشري وكيفية عملها.
حيث هُناك مسارين لتشكله وهما المسار الطويل والمسار القصير:
المسار الطويل (المسار الواعي):
في المسار الواعي، في أي موقف نواجهه في الحياة ويتطلب منا استجابة ما، يتجه الموقف نحو Limbic System الجهاز الحوفي، هذا الجهاز يحتوي على خبراتنا وتصوراتنا حول الموقف الذي تعرضنا له وواجهناه في تلك اللحظة.
بعد ذلك يتجه نحو الفص الأمامي من الدماغ المسؤول عن تحليل وتفسير الأمور التي تحدث حولنا (وهو تماماً ما يميز المسار الطويل عن القصير). يحلل الفص الأمامي من الدماغ تلك الاستجابة التي صدرت تبعاً للموقف، فإن كانت مناسبة يستجيب لها وإن كانت عكس ذلك يخلق استجابة أخرى جديدة.
إذاً الطريق الطويل يعتمد على خبراتنا السابقة إذ يقوم بتحليلها ويعتمدها إن كانت مناسبة.
المسار القصير:
وهنا لا نطلق عليه المسار غير الواعي وإنما الأقرب للغريزي فهو المسار الذي يحدث عندما نواجه ضغوطات ومخاطر كبيرة وبالتالي لا يكون هناك مجالاً أمامنا للتفكير والتحليل.
لذلك يعتمد الدماغ على التصورات والخبرات المسبقة سواء كانت خبرات شخصية أو خبرات حدثت حولنا من قبل. والاستجابة هنا تكون مباشرة نحو Limbic System الجهاز الحوفي دون التوجه نحو الفص الأمامي أي دون المرور بعملية التحليل ودراسة العواقب التي تتميز بها شخصيتنا الاجتماعية.
يعطي الجهاز الحوفي Limbic System الأوامر بناء على تصورات سابقة دون تحليل الموقف كما ذكرنا سابقاً.
ما علاقة مسارات الدماغ بالعنف؟
يحدث العنف في جو من التوتر والخوف والكثير من الصور النمطية التي رأيناها وخزنها الدماغ حول قضايا وأمور كثيرة. لذا يكون المسار القصير هنا هو المسار الفعال فعلياً، لأن الأشخاص دائماً ما يلجأون للصور النمطية الموجودة مسبقاً في الدماغ والآراء العامة الموجودة لديهم حول مواقف تعرضوا لها من قبل. دون اللجوء لتحليلها كما في المسار الواعي.
ومن هنا نقول، طريقة تفكيرنا وإبداء آراءنا وحتى سلوكنا تجاه موقف معين تحدد المسارات التي نعززها داخل أدمغتنا. فعندما نتبنى الصور النمطية والسلوكيات الجاهزة دون تحليلها والتفكير فيها فإننا نعزز المسار القصير ونضعف المسار الطويل أو المدرك الواعي.
ومن هذا المنطلق علينا أن نكون واقعيين ومدركين للصور النمطية الموروثة والسلوكيات التي نقوم بها بشكل عفوي ودائم دون أن نعيها ونفكر بها.
ما علاقة العنف بأنماط استجابتنا السلوكية؟
يرتبط العنف بشكل استجابتنا ارتباطاً تاماً، وذلك بارتفاع عتبة الاستجابة أو نقصانها، فعندما ترتفع عتبة الاستجابة يصبح لدينا مشكلة في تقييم الخوف والتعامل معه. ومثال على ذلك خلال جائحة Covid-19 في البلدان التي عاشت الحرب لم يكن هناك استجابة للوباء وخطر الفايروس وقالوا إنهم عاشوا ظروفاً أقسى من ذلك بكثير، فعتبة الاستجابة للخوف قد زادت لديهم بشكل كبير!
أما الحالة الأخرى عندما تقل العتبة، فأقل حالة تحدث أمام الشخص تكون الاستجابة للخوف والهلع ضخمة جداً.
"إن اللاعنف هو أعظم قوة في يد البشرية"
غاندي Tweet
آليات تعزيز المسار الطويل لعمل الدماغ
بناء على ما سبق، علينا أن ننتبه أن أغلب الأشخاص الذين عاشوا أو يعيشوا في جو من الخوف والضغط هم أشخاص محصورين ضمن الاستجابات المباشرة أو الجاهزة تجاه المواقف التي يتعرضون لها.
لذا علينا أن نصيغ تدخلاتنا بما يتعلق بمجال العنف والحد منه مع مراعاة حقيقية لهؤلاء الأشخاص وأن نوظف آلياتنا لجعلهم يخرجون من المسار القصير نحو الطويل أي المسار الواعي أو المحلل المفكر.
ولتعزيز المسار الطويل هناك مجموعة من الآليات التي من الممكن أن نقوم بها ومنها:
- تدريب الأشخاص أن يتعاملوا مع المشكلة من عدة جوانب، بالإضافة لتأطير المشكلة أو فن صياغة الأسئلة حول الأمور التي نتعرض لها.
- تدريب القدرات على خلق واستنتاج أو وضع الحلول البديلة للمشاكل التي يتعرضون لها.
- تدريب الأشخاص على آليات اتخاذ وصنع القرار على مستوى الأفراد أو المجموعات.
كما أنه سيكون من المهم جداً زيادة معرفة وعي الناس عن العنف وللحلقة التي يمر بها والآليات الضرورية للتصدي لها.
أخيراً علينا أن نعرف المجتمعات التي تسعى للسلام وتنتهج اللاعنف سبيلاً له على كيفية تشكل السلوك البشري ومنه ندرك منشأ سلوكنا،
هل هو سلوك عام أخذناه من المجتمع والموروث؟
هل نقول كلماتنا دون التفكير فيها؟
أم أننا ندرك أقوالنا وأفعالنا؟ ونفكر أكثر باستجابتنا للمواقف حولنا.
منه سنحدد منشأ العنف لدينا وحولنا.