العنف، هل سبق لك وأن راودتك الاسئلة حول ظاهرة العنف؟ على الأغلب فإنّ الاسئلة الأكثر طرحاً كانت “لماذا؟” و “كيف يمكن؟”.
يعد العنف من أكثر الظواهر انتشاراً في المجتمعات البشرية، ويشكل تحدياً حقيقياً للبشرية، لأنه وإن توقف بشكل آني فإنّ ما يخلّفه يحوي الكثير من القسوة والصعوبة في الشفاء.
وقد تم توثيق العنف منذ العصور القديمة واستمر حتى اليوم. بشكل أكثر تطوراً وتكيفاً مع التغيرات في العصر الحالي، الأمر الذي يجعل التعامل معه أكثر تعقيداً وصعوبة.
ما هو العنف؟
يمكنك إطلاق صفة العنف هو كل تصرف أو سلوك يؤدي أو يكون الهدف منه إيذاء النفس أو الآخرين جسدياً أو نفسياً أو اقتصادياً أو رمزياً. والهنف قد يكون عملاً فردياً أو جماعياً. أسبابه متعددة ومتشعبة، ويتأثر بها عوامل اجتماعية ونفسية ونفسية.
ويمكن للعنف أن يظهر في عدة مظاهر، كالعنف الأسري، والعنف في المدارس، والعنف المجتمعي والعنف الدولي.
أسباب العنف
ما موقف العلوم الاجتماعية من العنف؟
يقال، احذر عدوك مرّة واحذر صديقك ألف مرة، لأن صديقك خير من يعرفك وخير من يمكنه إيذاءك. وعليه، في معركتك ضد أي شيء في الوجود، يتعين عليك معرفته بشكلٍ جيد لتكون قادراً على مواجهته. كما الخوف والقلق والمجهول.
وبما أن العنف يعتبر من أكثر الظواهر الشنيعة في الوجود، يتوجب علينا فهمه ودراسته بشكل متعمق، لأنه فقط من خلال الفهم والوعي يمكننا إيجاد الحلول الفعالة والمستدامة لهذه المشكلة التي تحمل آثاراً اجتماعية ونفسية وجسدية كبيرة على الأفراد والمجتمعات. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لفهم العنف أن يسلّط الضوء على قضايا اجتماعية أكبر مثل السلطة، وعدم المساواة، والسيطرة الاجتماعية. فكيف تتم دراسة العنف؟
أبرز نظريات العنف التي درس بها علم الاجتماع
في الحقيقة إنّ فهم العنف صعب للغاية. لذا لجأ علماء الاجتماع إلى الاستناد إلى نظريات تبرر وتظهر حقائق قد لا تكون واضحة للعيان ولكنها تقف خلف التصرفات العدوانية التي صدرت عن شخص أو جماعة معينة. ولمعرفتها الأهمية الكبيرة في علاجها الذي من شأنه إلغاء وجودها. وأبرز هذه النظريات:
نظرية الإحباط:
يرى أصحاب هذه النظرية والمتأثرون بالفلسفة الوجودية الذاتية، أن الاعتداء ما هو إلا رد فعل ناتج عن إحباط ذاتي أو جماعي مرتبط بعدم تحقيق دافع أو الوصول إلى منافع أو طموحات مرجوة.
بمعنى آخر هو عملية تتضمن إدراك الفرد لعائق يحول دون إشباع حاجاته أو توقع الفرد حدوث هذا الحادث في المستقبل. ويشدد أصحاب هذه النظرية على أن الإحباط يؤدي إلى العنف والعدوان وذلك بتوفر شرطين أساسيين هما:
- العدوان يحدث إذا كان الإحباط يحدث بطريقة متعسفة ولا معنى لها.
- حينما يكون العدوان والعنف فعالين في التخلص من العقبات التي تعترض طريق إشباع الحاجات.
يتجسد ذلك عند تعرض الشخص لعدم الاحترام والإذلال في عمله، لكنه لا يستطيع الرد على ذلك خوفًا من فقدان وظيفته، فقد يعود إلى المنزل ويمارس غضبه وإحباطه على أفراد أسرته.
أو عند تعرض الفرد للإساءة من قبل أحد الوالدين ولا يستطيع حماية نفسه لبعض المعايير التقليدية والدينية. فهو يحمل بداخله هذا الاحباط ليُسقط مشاعره هذه على أشخاص آخرين يذكرونه بإحباطاته.
ومنه فقد وضع دولارد مجموعة من القوانين السيكولوجية لتفسير العدوانية والعنف منها:
1- كل توتر عدواني ينجم عن كبت.
2- ازدياد العدوان يتناسب مع ازدياد الحاجة المكبوتة.
3- تزداد العدوانية مع ازدياد عناصر الكبت.
4- إن عملية صد العدوانية يؤدي إلى عدوانية لاحقة بينما التخفيف منها يقلل ولو مؤقتا من حدتها.
5- يوجّه العدوان نحو مصدر الإحباط وهنا يوصف العدوان بأنه مباشر. وعندما لايمكن توجيه العدوان نحو المصدر الأصلي للإحباط، فإنه يلجأ إلى توجيه العدوان نحو مصدر آخر له علاقة مباشرة أو رمزية بالمصدر الأصلي، وعندها يسمى هذا العدوان “مزاحاً” وتعرف هذه الظاهرة بكبش الفداء، فالمعلم الذي يحبط من قبل مديره يوجه عنفه نحو الطلبة لأنه لا يستطيع أن يعتدي على المدير، والزوجة التي يعنفها زوجها تقسو على أطفالها.. إلخ.
نظرية التعلم الاجتماعي:
وهي من أكثر النظريات شيوعاً في تفسير العنف. وهي ترفض فكرة أن العنف ينتج من دوافع داخلية وإنما يتعلم الأشخاص العنف بنفس الطريقة التي يتعلمون بها أنماط السلوك الأخرى بالاعتماد على الإثارة والتقليد والتعزيز. كما يتشرب المرء مشاعر التمييز العنصري أو الديني من بيئته المحيطة. لذلك نرى أن المجموعات في الغالب أو الفئات تتمتع بنفس الأفكار ونفس التوجهات والولاءات كما أنها تمتلك نفس الأفعال.
وتبدأ عملية التعلم هذه بالأسرة، فبعض الآباء يشجعون أبناءهم على التصرف بعنف مع الآخرين في بعض المواقف، ويطالبونهم بألا يكونوا ضحايا العنف.
” لا تسمح لحدا من رفقاتك بالمدرسة يضربك”، “اللي بيضربك اضربه”، “بكرا بدي تجي ضارب رفيقك اللي ضحك عليك”.
أو عند ملاحظة الطفل للوسيلة التي يحل بها والده مشاكله مع زوجته أو الجيران ألا وهي “العنف”، فإنه يقوم بتقليد ذلك.
كذلك الأمر في الألعاب والبرامج والتلفاز، التي باتت تحتوى على ألفاظ وعبارات ومشاهد تساعد على تأسيس سلوك العنف لدى الأطفال.
ويؤكد ذلك أن مظاهر العنف توجد بشكل واضح في بعض الثقافات والثقافات الفرعية بينما تقل في ثقافات أخرى، فبعض الثقافات الفرعية التي تمجد العنف تحتل نسبة الجريمة فيها معدلات عالية. كما نجد أنه في المجتمعات الذكورية التي تعطي السلطة للرجل كثيراً ما نجد أن الرجال يمارسون العنف بشكل واضح ويسوقون المبررات المؤيدة لعنفهم.
هذا بالإضافة إلى ما يسود المجتمع من توجهات فكرية مؤيدة أو معارضة للعنف متمثلة في الأمثال والعرف والثقافة السائدة.
وتم وضع الفرضيات الأساسية التالية لنظرية التعلم الاجتماعي، وهي:
1- العنف يتم تعلمه داخل الأسرة والمدرسة ومن وسائل الإعلام.
2- العديد من الأفعال الأبوية أو التي يقوم بها المعلمون والتي تستخدم العقاب بهدف التربية والتهذيب غالباً ما تعطي نتائج سلبية.
3- العلاقة المتبادلة بين الآباء والأبناء والخبرات التي يمر بها الطفل في مرحلة الطفولة المبكرة، تشكل شخصية الفرد عند البلوغ، لذلك فإن سلوك العنف ينقل عبر الأجيال.
4- إساءة معاملة الطفل في المنزل تؤدي إلي سلوك عدواني تبدأ بذوره في حياته المبكرة ويستمر في علاقته مع أصدقائه وإخوته، وبعد ذلك مع والديه ومدرسية.
نظرية الصراع الاجتماعي:
وتقوم هذه النظرية على الفكر الماركسي الذي يرجع العنف في المجتمع إلى الصراع، وخاصة الصراع الطبقي.
والصراع بأشكاله كافة الصراعات السياسية والإثنية والدينية، وصراع المصالح والصراع على السلطة. ويشكل الصراع اللبنة الأساسية في زيادة مظاهر العنف في الوقت الراهن وتغذيتها. خاصةً في ظل عدم توازن القوى، فعادة ما يميل الطرف الأقوى لفرض هيمنته على الأضعف لتستمر بعد ذلك دائرة العنف.
النظرية البنائية الوظيفية:
تقوم هذه النظرية على فكرة تكامل الأجزاء في كل واحد. فلكل مجتمع أو مؤسسه أو منظمة بناء، وهذا البناء يتحلل إلى أجزاء وعناصر مكونة له، لكل جزء أو عنصر منها وظيفة تساعد على ديمومة المجتمع أو المؤسسة أو المنظمة.
وإنّ أي تغير في أحد الأجزاء أو العناصر من شأنه أن يحدث تغيرات في الأجزاء أو العناصر الأخرى.
وبالتالي فالعنف له دلالاته داخل السياق الاجتماعي، فهو إما أن يكون نتاجاً لفقدان الارتباط بالجماعات الاجتماعية التي تنظم وتوجه السلوك. أو نتيجة لفقدان الضبط الاجتماعي الصحيح. أو نتيجة لاضطرابات في أحد الأنسقة الاجتماعية مثل النسق الاقتصادي أو السياسي أو الأسري. أو نتيجة لسيادة اللامعيارية في المجتمع واضطراب القيم.
دعونا نسقط النظرية على الواقع، الاسرة التي تتكون عادةً من أبوين وبضعة أولاد ظهرت لتلبي بعض الحاجات الفردية كالتمتع بالحرية والعيش بالاستقلالية والعمل والتربية الخاصة. في مقابل ذلك لم تعد الأسرة الممتدة المكونة من الأبوين والأبناء والأزواج والزوجات وأبنائهم؛ لم تعد قادرة على تلبية الحاجات الفردية.
نظرية التحليل النفسي:
يرجع فرويد العنف إما لعجز (الأنا) عن تكييف النزعات الفطرية الغريزية مع مطالب المجتمع وقيمه ومثله ومعاييره، أو عجز الذات عن القيام بعملية التسامي أو الإعلاء، من خلال استبدال النزعات العدوانية والبدائية والشهوانية بالأنشطة المقبولة أخلاقياً وروحياً ودينياً واجتماعياً. كما قد تكون (الأنا الأعلى) ضعيفة، وفي هذه الحالة تنطلق الشهوات والميول الغريزية إلى حيث تتلمس الإشباع عن طريق سلوك العنف.
كما يرى فرويد أن دوافع السلوك تنبع من طاقة بيولوجية عامة، تنقسم إلى نزعات بنائية (دوافع الحياة) وأخرى هدامة (دوافع الموت). وتعبر دوافع الموت عن نفسها في صورة دوافع عدوانية عنيفة. وقد تأخذ هذه الدوافع صورة القتل والحقد والتجني ومقر دوافع الموت أو غريزة التدمير هو اللاشعور.
في حين ترى الفرويدية الحديثة أن العنف يرجع إلي الصراعات الداخلية والمشاكل الانفعالية والمشاعر غير الشعورية بالخوف وعدم الأمان وعدم المواءمة والشعور بالنقص.
ومثال على ذلك. الشخص الذي يتقبل الإهانات في علاقاته على حساب نفسه وهذا يندرج تحت مسمى عنف موجه نحو الذات.
أو الشخص الذي يقوم بتعنيف الشريك إن كان بالضرب الجسدي أو الابتزاز العاطفي ويندرج هذا تحت مسمى عنف موجه نحو الآخر.
لا تزال ظاهرة العنف موضوع دراسةٍ وبحث، ولا زال علماء الاجتماع يسعون إلى فهم أسبابه وآثاره بشكل أفضل للحد منه.
وليس الانتشار الواسع للعنف سبباً للتسليم به واعتباره من أحوال البشر الحتمية وحقيقة من حقائق الحياة للتعامل معها بدلاً من منعها.
إعداد: سناء سليمان
المزيد عن العنف: