لتتخيلوا معي أنكم جمهورً في مسرح كبير جميعكم رجالاً ونساء اجتمعتم لتشاهدوا عرضاً لسيدتين جاءت كل منهما لتقول بطريقتها : “أوقفوا الحرب!”
ليتخيل كل منكم في البداية والدته تقف في منتصف الخشبة تحمل على ظهرها كيسا مملوءاً بحنان العالم تنظر تارة في عيون الجميع وتارة في عيونك وحدك بتركيز، تحاول مراراً البكاء أثناء إلقائها لمونولوجها الداخلي لكنها تصبر لتظهر بأقصى قوتها وتأثيرها، تحاول بكل اللمعة في عينيها أن توقف الحرب التي جعلتك تهاجر عبر مركب صغير في بحر ضخم فانتظرت أياماً طوال لتعلم أنك وصلت حياً إلى وجهتك ثم مازالت تنتظر حتى الآن لتحتضنك وتشم رقبتك. ثم تشرح لك كيف تجمع يومياً العائلة كلها بعد أن تشكلها فرداً فرداً بالصلصال حول المائدة ثم تقسم الطعام عليكم كل حسبَ ما يحب فتنطلق الضحكات والمشاجرات الودية بينكم عالياً وينتهي المشهد بإطفاء الإضاءة ونوم الجميع في غرفة واحدة بأمان، يرافق تنفس الجميع الهادئ صوت خفقان قلب مدفأة المازوت وغليان مياه الإبريق الذي يعتليها مع صوت دعاء الوالدة بأن تدوم السعادة.
يكسر الإيهام العاطفي السابق صوت موسيقى قوية وإضاءة مبهرة تسبق بقليل دخول امرأة ساحرة بفستان مموج ووردة كبيرة على جانب الرأس، ونظرات قوية كأنها عيون نسر جارح، حذاء قوي وأقدام نارية تخبط على الخشبة بإيقاع جميل منسجم مع الموسيقى، راقصة الفلامنكو تعبر عن غضبها وألمها من الحرب تخبط بقدمها وتحكي قصة المرأة التي سُبيت، ثم تخبط بالقدم الأخرى فتروي حكاية الأم التي أُسر أبناءها والمرأة الريفية التي سُلبت أرضها، ثم تلف يديها بانسيابية وعزيمة فتبكي الشاعرة التي وجدت الكتابة رفاهية أمام موت أخيها والفتاة التي تركت المدرسة لتخفف وزن أعباء المصروف والوقود على أهلها.
انتهى العرض!
أنتم الآن بأعصاب مشدودة وكأنكم ستخرجون وتطفئون “كبسة الحرب” بلحظة واحدة!
بمن تأثرتم أكثر ياترى؟ بعاطفة الأم وقوة لينها وعيونها الصادقة وقصتها الحقيقية؟ أم بعنفوان راقصة الفلامنكو وكبريائها ورفضها للحرب وآثارها؟
لماذا يمكن أن يكون تأثير المرأة قوياً علينا رجالاً ونساء؟ هل نحن بحاجة إليهما معاً لتمد العاطفة يدها للمنطق ويتصافحان معاً ويشكلان قوة إيقاف الحرب؟ هل تستطيع المرأة في مجتمعاتنا خلق التغيير المجتمعي؟
ما الذي نريده؟ القادة النساء أم بناء السلام؟
القيادة هي قدرة التأثير على الأفراد لجعلهم يرغبون في إنجاز أهداف المجموعة، بينما يعرف السلام تعريفات عدة مثل غياب الحرب أو غياب العنف والشر وحلول العدالة أو أنه عبارة عن حالة من الأمن والاستقرار تسود العالم وتتيح التطور والازدهار للجميع.
هل يمكن الوصول لحالة السلام دون القدرة على التأثير أو اتخاذ القرارات؟
القادة النساء
عندما بحثت في هذا العنوان ظهرت لي نتائج عديدة لعناوين مثل: “هذه هي النتائج المذهلة للقيادات النسائية في 19 دولة تقودها النساء” أو “اليوم الدولي للمرأة خمس قائدات مدافعات عن حقوق الإنسان” أو “بلغت نسبة الوزيرات حول العالم مستوى غير مسبوق حيث وصلت إلى 20 %”، ففكرت بأننا نتحدث عن العالم بأسره والأرقام المذكورة لم تتجاوز العشرين كعدد أو كنسبة مئوية!
إلا أنها أعداد تظهر نساء في مواقع صنع القرارات وفي الواقع هناك أعداد أكبر بكثير من النساء يعملن على الأرض بقصد أو بغير قصد كمحاولة لبناء السلام “طوبى طوبى”.
بناء السلام والتغيير المجتمعي بحذر
في جولة قصيرة لبعض مناطق النزاعات والأماكن المتضررة بسبب الحروب التي طال أمدها، سنقابل نساء وفتيات جاهدن كثيراً للتخفيف من النزاعات أو إحلال السلام في مجتمعاتهن ففي اليمن مثلاً عملت النساء بلا كلل لتوفير السلام والاستقرار لمجتمعاتهن فبالإضافة إلى تسهيل تبادل الأسرى وفتح الممرات الإنسانية يواصلن التوسط في عمليات وقف إطلاق النار المحلية وتقديم الخدمات الحيوية للسكان المحليين ومع ذلك فإن المساهمات الجوهرية للنساء اليمنيات في تحقيق السلام على الأرض لم تمنحهن مقعداً على طاولة المفاوضات الرسمية.
في حين لا يمكن إهمال الدور الكبير للعديد من السيدات في سوريا ولبنان وفلسطين واليمن وغيرها من الدول بترميم الجروح التي سببتها الحروب بين أجيال الشباب أو بين مجتمعات النساء والفتيات عبر جمعيات ومنظمات المجتمع المدني بدعم من الأمم المتحدة من خلال برامج توعوية عديدة حول العنف وأهمية تقبل الآخر والمساعدة في التعرف على حقوق الإنسان عموماً وبشكل خاص حقوق المرأة والطفل وأهمية العمل الإنساني وترسيخ السلم الأهلي والعدالة الاجتماعية إلخ..
يمكننا أيضاً خلال جولتنا أن نصادف الناجية إيمان عباس وهي شابة أزيدية كانت سبية لدى داعش قبل أن تنجو وتنتقل للدفاع عن حقوق الناجين من المعاناة في شمال العراق تقول إيمان ذات الـ18 عاماً أريد أن أصبح محامية لأنال خبرة في القانونين العراقي والدولي لأتمكن من الدفاع عن حقوق الأيزيديات الناجيات وأيضاً الضحايا الآخرين للتنظيم” إن إيمان مشروع بانية سلام فهي لم تفكر فقط بأبناء جلدها بل فكرت بمساعدة جميع الضحايا بعيداً عن التعصب تجاه جماعة معينة.
سأوقِف البحث هنا وأعود لنبش ذاكرتي حيث تقف جدتي في عمق الذاكرة بوجه مهموم وابتسامة خجولة تضع يدها السمراء بعروق بارزة على يد خالي ويدها الاخرى على يد خالتي محاولة لأيام عدة أن تقنعهما بأن أطفالهما ليسوا سوى أطفال ولا يجب أن يؤثر خلافهم على “دم الأخوة الذي عليه أن لا يصبح ماءاً” جدتي ذات الثلاثة عشرة ابنا وابنة قامت بعمليات وساطة ناجحة عديدة قبل أن تعلم أن ما تفعله يسمى بهذا الاسم. توفيت الجدّة ومازال الأبناء والأحفاد يراجعون مواقفها و يتبنوها. جدتي أيضاً بانية سلام.
والسؤال: هل تستطيع الجدة أو أياً من النساء السابقات ذكرهن أن يقفن كما تفعل أنجيلا ميركل على سبيل المثال وتخاطبن قادة العالم؟
مازال هناك العديد من المخاطر التي قد تواجه النساء وتضع العراقيل في دروبهن الصعبة أقلّها الأحكام المسبقة التي يمكن أن تُطلق على المرأة مهما علا شأنها على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الإعلام وأكثرها التعرض المباشر لها والتهديد بالإضافة للشعور بالعزلة التي نوهت إليه الصحفية ميغي ماربل: “ماذا يعني أن تكون هناك امرأة واحدة فقط في غرفة اجتماعات”.
إن عملية تحقيق السلام عملية تشاركية تحتاج لتمكين النساء والرجال معاً في معرفة الأدوار والحقوق والتوازن في القوى والتأثير ومنع الخطورة على كافة الأطراف. لذلك نحن نحتاج للكثير من البروفات على الأرض يقوم بها الجميع دون استثناء، نساء ورجال كثر حتى نصل لعرض مسرحي لا يقتصر على راقصة فلامنكو واحدة وأم واحدة بل الكثير الكثير من النساء والآباء والشبان والشابات والكهول والأطفال والجدات.