في سوريا ما
بعد التحرير، تخرج المجتمعات من تحت ركام الحرب باحثةً عن هوية جديدة، عن عدالة
افتُقدت، وعن وطن حاول النظام لعقود طويلة أن يعيد تشكيله وفق مقاساته. ومع أنّ
التحرر من قبضة الاستبداد يمثل بداية جديدة، إلا أن إرث النظام السوري لا يزال
حاضراً في مفاصل الوعي الجمعي، وأخطر تجلياته هو ترسيخ “خطاب الكراهية”
كأداة سلطوية لإحكام السيطرة.
فعلى مدى أكثر
من خمسة عقود (منذ انقلاب عام 1970)، عمل النظام على صناعة انقسامات أفقية وعمودية
في المجتمع السوري. كان يُربّي الأجيال على الخوف من الآخر، ويقسّم المواطنين حسب
ولائهم، ويشوه صورة المعارض باعتباره خائناً أو عميلاً أو طائفياً. لم يكن هذا
الخطاب عارضاً، بل بنية ممنهجة، بدأت في الإعلام الرسمي، واستمرت في المناهج
التعليمية، وتوغلت في مؤسسات الدولة، حتى باتت الكراهية ثقافة سلطوية تسكن الخطاب
اليومي.
ومع اندلاع
الثورة السورية عام 2011، انفجرت هذه البنية الهشة، وخرج خطاب الكراهية إلى العلن،
يغذيه الإعلام الرسمي. واليوم، وبعد سنوات من التهجير والتقسيم والنزوح والدمار،
نجد أنفسنا أمام مجتمع جريح، يعاني من انهيار الثقة، وتفتت الهوية، وكراهية مزروعة
في النفوس.
في مثل هذا
السياق، يصبح فهم أحد أخطر الظواهر التي تهدد المجتمعات خطاب الكراهية وتحليله
أولوية ضرورية لأي مشروع وطني جامع. ولا يمكن بناء مستقبل مستقر دون تفكيك أدوات
الكراهية التي زُرعت على مدى أكثر من نصف قرن.
ما هو خطاب
الكراهية؟
خطاب الكراهية كما جاء في تعريف
الأمم المتحدة UN هو أي شكل من أشكال التواصل، سواء في الكلام أو
الكتابة أو السلوك، يهاجم أو يستخدم لغة مهينة أو تمييزية تجاه شخص أو مجموعة
بناءً على من يكونون، أي استنادًا إلى دينهم، عرقهم، جنسيتهم، لونهم، أصلهم، نوعهم
الاجتماعي أو أي عامل آخر من عوامل الهوية.
في حين جاءت توصية لجنة وزراء مجلس أوروبا (رقم
97/20) بأنّ خطاب
الكراهية يشمل كل أشكال التعبير التي تنشر أو تشجع أو تبرر الكراهية العنصرية، أو
كراهية الأجانب، أو معاداة السامية، أو أي شكل من أشكال الكراهية الناتجة عن عدم
التسامح. ويشمل ذلك عدم التسامح المُعبّر عنه عبر القومية العدوانية، أو التمييز،
أو العداء ضد الأقليات، والمهاجرين، وأشخاص من أصول مهاجرة.
وعلى صعيد
المنصات الإلكترونية التي أصبحت في هذا الزمن ليس فقط البيئة الخصبة الأساسية
لخطاب الكراهية، بل تغذيه وتساهم في انتشاره، فقد جاء تعريف منصة فيسبوك Facebook لخطاب الكراهية بأنه هجوم مباشر على الأشخاص (وليس على الأفكار
أو المؤسسات)، استنادًا إلى ما نُسميه “الصفات المحمية” مثل: العِرق،
الأصل العرقي، الأصل القومي، الإعاقة، الانتماء الديني، الطبقة الاجتماعية، الميول
الجنسية، النوع، الهوية الجندرية، والأمراض الخطيرة. ويشمل الهجوم: الكلام العنيف
أو المُهين، الصور النمطية الضارة، عبارات التقليل من الشأن، أو ازدراء الآخرين،
الشتائم، والدعوات للإقصاء أو العزل.
وحرصاً على
حماية المستخدمين، تعتمد منصة إكس X (تويتر
سابقاً) سياسات
واضحة تحظر أي هجوم مباشر على الأفراد استناداً إلى صفاتهم الشخصية. وتأتي هذه
السياسات ضمن إطار قانوني وتنظيمي يهدف إلى منع نشر أو تبرير خطاب الكراهية، وضمان
بيئة تواصل آمنة تقوم على احترام التنوع وحقوق الإنسان.
وتُعتبر
الهجمات في هذا السياق على شكل خطاب عنيف أو تجريدي من الإنسانية، وتعبيرات تروج
للصور النمطية الضارة التي تقلل من شأن الآخرين. كذلك، يشمل ذلك الشتائم،
والتصريحات التي تحمل ازدراء أو قرف، أو دعوات للإقصاء والعزل من المجتمع. كما يتم
تضمين أي خطاب يهدف إلى التقليل من قيمة الأشخاص أو التمييز ضدهم بسبب هذه الخصائص
المحمية.
تُظهر هذه
التعريفات اتفاقاًعلى ثلاثة عناصر جوهرية:
- الهدف
من الخطاب: جميع
التعريفات تعتبر أن الكراهية ليست رأياً عادياً، بل تُستخدم للتأثير الضار في
الآخرين إما عبر التحقير، أو التحريض، أو نشر الخوف.
- الأساس
التمييزي: يتفق
الجميع على أن الخطاب يستهدف فئات بناءً على خصائصها الثابتة (الدين، العرق،
النوع الاجتماعي…).
- التأثير
في المجتمع: بعض
التعاريف ترى أن خطاب الكراهية لا يقتصر على الأذى الفردي، بل يُستخدم كأداة
لترسيخ التمييز وعدم المساواة، وللحفاظ على أنظمة اجتماعية ظالمة تهمّش وتقصي
فئات معينة من المجتمع.
ويمكن تلخيصه
على أنّه كل تعبير يحمل في طياته تحريضاً أو تمييزاً ضد أفراد أو مجموعات على أساس
الهوية الدينية أو العرقية أو الجندرية أو السياسية أو غيرها، بأي نوع من التواصل
سواءً بالكلام أو الكتابة أو السلوك، كما يتعدى هذا الخطاب حدود الرأي، ليشكّل
خطراً مباشراً على السلام المدني، ويمهّد غالباً لأعمال عنف وتمييز ممنهج.
يجب علينا مجابهة التعصب من خلال العمل على التصدي للكراهية التي تنتشر في الإنترنت انتشار النار في الهشيم.
أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة، 2023 Tweet
لماذا يتضخم خطاب الكراهية في الأزمات؟

خلال الأزمات، تتفاقم مشاعر الخوف والقلق والشك، ما يدفع الأفراد والمجتمعات إلى البحث عن “عدو” أو بمعنى أدق “البحث عن كبش فداء” يحمّلونه مسؤولية ما يحدث، ويعزز هذا التوجّه عوامل متعددة مثل ضعف مؤسسات الدولة وغياب الإعلام المهني وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي كمنصات غير منضبطة.
وتبدو أسباب انتشار مثل ذلك الخطابات موجودة في مجتمعاتنا التي ابتُليت بصراعات وحروب طويلة الأمد كثيرة، ولا شك أن الاستبداد يستخدم مثل تلك الآليات من أجل تفرقة الشرائح الاجتماعية وتفتيت المجتمعات لسهولة السيطرة عليها، ليصبح خطاب الكراهية أداة فعالة لحشد التأييد وإقصاء الخصوم، ويسهم غياب التعليم القائم على قبول الآخر والتنوع في تكريس التعصب، فعندما ينشأ الفرد في بيئة تكرس صورة نمطية عن فئات معينة، فإنه يصبح عرضة لتصديق خطاب الكراهية وترويجه من دون تفكير نقدي.
وفي المجتمعات التي تقوم على تنوع طائفي أو قومي أو سياسي، يمثّل خطاب الكراهية تهديدًا مباشرًا لوحدة البلاد. فهو لا يقتصر على خطاب لفظي، بل يتحوّل إلى ممارسة إقصائية وعنف رمزي، وقد يصل إلى التطهير العرقي أو الطائفي.
كما أكدت الدراسات أن المجتمعات التي شهدت نزاعات أهلية تصبح بيئة خصبة لتغذية الكراهية، إذ يتم إعادة إنتاج الأحقاد عبر الإعلام والتعليم والسياسة.
"عندما نواجه خطاب الكراهية، فإننا لا نحمي فقط السلم الأهلي، بل نحمي كرامة الأشخاص المستهدفين بسبب خلفيتهم العرقية أو السياسية أو الدينية. الوصم والإقصاء والصور النمطية تقلل من حرية الناس، والدفاع عنهم هو دفاع عن حقوقهم."
يحيى فارس Tweet
سوريا كنموذج حي لآثار خطاب الكراهية
منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، أصبح خطاب الكراهية جزءاً من المشهد اليومي، لا في ساحات القتال فحسب، بل في المدارس والإعلام والمنازل، وبات يُستخدم كمبرر للعنف ووسيلة لحشد الجماهير، ففي وسائل الإعلام، وُظف الخطاب الطائفي لتشويه صورة الطرف الآخر وتحريض الناس ضده.
واستمر ذلك حتى اليوم، وبعد تحرير سوريا بعدة أشهر نعيش حصاد ما تم زرعه خلال خمسة عقود، حيث كشف تحقيق استقصائي أجرته بي بي سي عن شبكات من الحسابات الخارجية تنشط على منصة X، تعمل على تأجيج الطائفية ونشر خطاب الكراهية، إلى جانب ترويج معلومات مضللة حول الأوضاع في سوريا.
وأوضح التحقيق أن هذه الشبكات تُدار بشكل منسّق ومنهجي، ضمن حملات إلكترونية استهدفت الحكومة السورية وبعض المكونات السورية، بالتزامن مع التغيرات السياسية التي تشهدها البلاد.
وقد تم تتبّع نشاط هذه الحسابات من خلال رصد أكثر من مليوني منشور مرتبط بالأحداث في سوريا منذ تحريرها، وقام الفريق بتحليل عينة تشمل أكثر من 400 ألف منشور على منصة إكس، وكشف التحقيق عن أساليب تلاعب تستخدمها بعض الحسابات، مثل تفعيل الحسابات المبرمجة والوهمية، والاستغلال الخوارزمي للسيطرة على الخطاب الإلكتروني. كما شملت تكتيكات شائعة مثل النشر المتزامن، وإعادة نشر المحتوى القديم، ونسج روايات ملفّقة للتأثير على الرأي العام.
واحد من كل خمسة منتجات إعلامية سواء في التلفزيون أو الراديو أو الصحافة أو الإنترنت يحتوي على نوع من أنواع خطاب الكراهية.
المركز السوري للإعلام وحرية التعبير (SCM) Tweet
وهذا ما زاد العبء على إدارة سوريا الجديدة من مواجهة تفكك للهوية الوطنية حيث أصبحت الطائفة أو الانتماء المناطقي أقوى من الانتماء الوطني، وأيضاً صعوبة المصالحة كنتيجة لخطاب الكراهية الذي غذى الذاكرة الجماعية القائمة على الحقد والخوف، ما يجعل المصالحة المستقبلية أكثر تعقيداً، وقد تنتقل الكراهية إلى الأجيال الجديدةوهذا يعتبر الأخطر على مستقبل سوريا.
إن خطاب الكراهية في زمن الأزمات ليس مجرد نتيجة جانبية، بل عامل مفاقم لها، وفي حالة سوريا، تحوّل إلى أداة مركزية في الصراع، ما يجعل من محاربته شرطاً أساسياً لأي عملية سلام أو إعادة بناء.
ولعل بداية الحل تكمن في الاعتراف بضرره، ووضع خطط حقيقية لتفكيكه، لا فقط في المؤسسات، بل في الوعي الجمعي ذاته.