لطالما رافقني السؤال التالي: كيف للدول التي عاشت نزاعاً عنيفاً أن تتعافى وأن تنعم بالسلام مرة أخرى؟
دفعني هذا السؤال الجاد لأكمل دراستي العليا في مجال دراسات النزاع والسلام، والسفر لعدة بلدان خاضت ومازالت تخوض نزاعات للإجابة على هذا السؤال، ومن بين هذه البلدان كانت راوندا.
تعد راوندا اليوم من البلدان الأسرع نمواً في القارة الافريقية وأكثرها أماناً واستقراراً وذلك خلال فترة وجيزة لا تتعدى ثلاثة عقود بعد نزاع دموي لازالت ندباته حاضرة إلى اليوم.
لمحة عن نزاع راوندا
تعود جذور النزاع في راوندا إلى الاستعمار الأوروبي والذي بدأ مع الألمان الذين استولوا على السلطة في البلاد عام 1892 واستخدموا سياسة فرق تسد بين المجموعات الاثنية الثلاث في راوندا وهي الهوتو والتوتسي والتاوا، والتي كانت تعيش معاً كرواندية بنفس الثقافة واللغة.
قام المستعمرين الألمان ومن بعدهم البلجيكيين بتفضيل التوتسي على غيرهم بمنحهم فرص تعليم ودعم سياسي وعسكري.
بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت مشاعر متزايدة ضد الاستعمار بين الروانديين، خاصةً بين النخبة التوتسي والملك، مما أثار قلق البلجيكيين الذين كانوا يسعون للحفاظ على نفوذهم.
وبعد اغتيال الملك التوتسي عام 1959، بدأت الإدارة البلجيكية بتنفيذ خطة “إزالة الاستعمار”، والتي تضمنت استبدال زعماء التوتسي بزعماء من الهوتو. وفي عام 1959، بدأت موجة العنف ضد التوتسي، واستمرت في التصاعد حتى وصلت إلى الإبادة الجماعية ضد التوتسي عام 1994. ومن أهم العوامل المساهمة في العنف ضد التوتسي الذي بدأ في عام 1959 نشر الوصايا العشر للهوتو، والتي استخدمت لغة الكراهية والتفوق على غيرهم من الاثنيات داخل راوندا وذكرت على وجه التحديد أنه لا توجد إمكانية لأي نوع من السلام أو العلاقات بين الهوتو والتوتسي.
في عام 1959، سيطر الهوتو على رواندا في أعقاب حركة الاستقلال، مما أجبر العديد من التوتسي على البحث عن ملجأ في البلدان المجاورة. في عام 1990، غزت الجبهة الوطنية الرواندية (RPF) المكونة من التوتسي المنفيين رواندا، مما أدى إلى اندلاع حرب أهلية. أدى اغتيال رئيس راوندا هابياريمانا إلى تصعيد قلق الهوتو من أن التوتسي سيستولون على السلطة في الحكومة وأن التمييز ضد الهوتو سيعود. وتم استخدام الراديو كسلاح قوي للتحريض على الإبادة الجماعية في رواندا وتوجيهها عن طريق سردية بأن التوتسي ليسوا بشر وهم أفاعي يجب القضاء عليها.
تعتبر الإبادة الجماعية في رواندا التي وقعت عام 1994 واحدة من أفظع حالات القتل الجماعي التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية. حيث تشير التقارير بأن ما يقرب من نصف مليون قتلوا خلال الإبادة معظمهم من الأقلية الاثنية من التوتسي من قبل الأغلبية من الهوتو. وجاءت أعمال القتل في رواندا نتيجة للتمييز المتأصل والأيديولوجية القائمة على الكراهية التي مهدت الطريق للوصول إلى العنف الجماعي طالت حتى الأكثرية من الهوتو الذين قتلوا بسبب دفاعهم عن التوتسي. لذلك تم وصف الإبادة الجماعية في رواندا بأنها “إبادة ذات طابع حميمي” حيث قامت العائلات والأصدقاء والجيران من نفس القرية أو المجتمع بقتل بعضهم البعض. ولذلك بعد انتهاء الإبادة، شرعت البلاد في عملية مصالحة طويلة ومستمرة إلى يومنا هذا.
أنواع المصالحة ومستوياتها عن قرب
يعرّف ديفيد بلومفيلد وغيره من الباحثين المصالحة بأنها “عملية ينتقل من خلالها المجتمع من الماضي المنقسم إلى مستقبل مشترك”. وتتضمن المصالحة مكونات رئيسية مرتبطة بسياسات العدالة الانتقالية، مثل معرفة الحقيقة، تقديم التعويضات، تحقيق العدالة الجنائية، والإصلاح المؤسسي. وبذلك، فإن تحقيق هذه الأهداف يؤدي إلى بناء مجتمع متصالح.
مستويات المصالحة
هناك مستويات مختلفة ومتداخلة من المصالحة من بينها التالي:
- المصالحة بين الدولة والمواطن: هذا المستوى من المصالحة يُعد ضرورة أساسية لتحقيق الاستقرار على المدى البعيد. فبعد انتهاء النزاع، غالبًا ما تنشأ خلافات بين المجتمعات حول الموارد، وفرص العمل، والدين، والثقافة، والمكانة. وبالتالي، يجب إجراء اتفاقيات بين الأطراف التي تشك في بعضها البعض وتخشى بعضها البعض.
- المصالحة بين المجموعات: والذي يعني تغيرات في الدوافع، والأهداف، والمعتقدات، والمواقف، والمشاعر لدى غالبية أعضاء المجتمع.
- المصالحة المؤسساتية: يتألف من عمليات مؤسسية رسمية، مثل المحاكم ولجان الحقيقة، التي يتم إنشاؤها للتحقيق في الماضي، وتحديد المسؤولية، والتعرف قانونيًا على الضحايا.
أنواع المصالحة:
هناك ثلاثة أنواع من المصالحة: الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية.
- المصالحة الاجتماعية: تحدث المصالحة بين أفراد من نفس المجتمع الذين يحتاجون، في نهاية النزاع، إلى إيجاد طرق جديدة للتعايش. يتضمن هذا النوع من المصالحة التسامح بين المجموعات العرقية، والتعايش السلمي، وإصلاح العلاقات المقطوعة، والمسامحة، والتعاطف، وإقامة علاقات جديدة وإيجابية، وقبول ما حدث في المجتمع بالماضي بصدق والاعتراف به دون إنكار.
- المصالحة الاقتصادية: تعتمد على تعظيم الربح الفردي أو المجتمعي أو الوطني.
- المصالحة السياسية: يتراوح من الشراكة السياسية بعد وقت قصير من انتهاء النزاع إلى مجتمع يحترم قيم سيادة القانون وحقوق الإنسان ويثق في حكومته، مؤسساته، ومواطنيه.
ومن المهم جداً عند الحديث عن المصالحة بالإشارة إلى الدور الكبير الذي يمكن للمجتمع المدني القيام به من خلال تقديم قراءات أكثر تفصيلًا ونقدًا للماضي الوقوف ضد أي محاولات لتحريف الحقائق التاريخية. تسهم منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، على وجه الخصوص بتعزيز أفكار العدالة والمساءلة, وتعزيز الاحترام المتبادل وسيادة القانون، نظرًا لأن هذه المبادئ تتطلب ما هو أكثر من مجرد قنوات ومؤسسات رسمية لتنفيذها.
بعض من خطوات راوندا للمصالحة
سارت راوندا بعدة خطوات تجاه المصالحة وقد جاءت منها على الشكل التالي:
- بناء هوية وطنية جامعة: بعد استقلال رواندا عام 1962، استُخدم مفهوم المواطنة لتقسيم السكان إلى مجموعات اثنية، أبرزها الهوتو والتوتسي. وبعد الإبادة الجماعية، أُعيد تأسيس المواطنة على أساس “الرواندية”، وتم القضاء على جميع الدلالات الاثنية من الخطاب العام. علاوة على ذلك، لا تزال الحكومة الحالية تعمل على تعزيز المشاريع التي تدعو إلى الوحدة وإزالة الطابع الاثني. ومن بين هذه الجهود، إزالة الإشارة إلى الاثنية في بطاقة الهوية الوطنية. لا يوجد أي منع أو تجريم اليوم في راوندا لاستخدام المصطلحات الدالة على الاثنية من قبل الأفراد، ولكن بشرط ألا يتم استخدامها بسياق تعالي أو إقصاء للآخر.
- إدراج تعليم السلام في المناهج الدراسية: يكشف تاريخ النظام التعليمي في رواندا أنه استُخدم بشكل منهجي لتعميق الانقسامات العرقية. تاريخياً لعب الاستعمار البلجيكي دور بارز في تكريس الانقسام والكراهية في المدارس من خلال تفضَّيل التوتسي على حساب الهوتو، حيث لم يتمكن الهوتو من الحصول على تعليم ملائم، وانتهى بهم الأمر في وظائف لا تتطلب مهارات عالية، في حين شُجّع التوتسي على مواصلة الدراسة لشغل مناصب سياسية هامة. بعد الإبادة الجماعية، وتحديدًا في عام 2014، أعلنت هيئة التعليم الرواندية إدراج تعليم السلام والقيم كمادة شاملة في المناهج الوطنية. وفي عام 2017، وافقت الحكومة الرواندية على دمج تعليم السلام في المناهج التعليمية الوطنية ضمن برنامج جديد أطلقته وزارة التعليم تحت مسمى “التعليم من أجل السلام المستدام في رواندا” (ESPR). يركز البرنامج على مهارات التعاطف، والتفكير النقدي، والمسؤولية الشخصية، والثقة، وذلك من خلال أساليب تعليمية تفاعلية.
- تحقيق العدالة: بعد الإبادة الجماعية، اعتبر المجتمع الدولي والحكومة الرواندية العدالة عنصرًا أساسيًا في عملية بناء السلام. على المستوى الدولي، أسست الأمم المتحدة المحكمة الجنائية الدولية لرواندا (ICTR) لمحاسبة المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب في عام 1994. أما الحكومة الرواندية، فقد اعتمدت على محاكمها القانونية ولجأت إلى أسلوبها التقليدي في حل النزاعات المعروف بـ”محاكم غاتشاشا” نظرًا للعدد الكبير من القضايا المسجلة. نظر المجتمع الدولي بشك وببعض الأحيان باستخفاف من جدوة هذه المحاكم التقليدية المستمدة من الثقافة المحلية المقامة تحت أغصان الأشجار و بالهواء الطلق أن تساهم بتسهيل المساءلة وتسريعها, و لكن احصاءات عشر سنوات تشير إلى أنه تم حل قرابة 1.9 مليون قضية – بما في ذلك 1200 من منظمي الإبادة الجماعية والمحرضين والمشرفين المزعومين – في أكثر من 12000 محكمة غاتشاشا. قدمت هذه المحاكم فرصًا مهمة لقول الحقيقة والعدالة, حيث تمكن العديد من الناجين من معرفة مصير أحبائهم، وتحديد مكان جثثهم وإعادة دفنهم بكرامة.
- النصب التذكاري للإبادة الجماعية: يخدم النصب التذكاري كمكان يمكن للروانديين تذكر وتكريم أحبائهم الذين قتلوا في الإبادة الجماعية حيث يحتوي على قبور لأكثر من 250.000 ضحية من ضحايا الإبادة الجماعية ومجموعة من صور الضحايا, والكثير من هذه الصور كان آخر أثر يمتلكه الأهالي لأحبائهم الذين فضلوا وضعها ضمن النصب التذكاري ليحيي العالم أجمع ذكرى ضحاياهم. كما يهدف النصب التذكاري ليكون مساحة للتعلم عن الإبادة الجماعية حتى لا تحدث مرة أخرى، في رواندا أو في أي مكان آخر من خلال سرد الوقائع التي أدت للإبادة, أساليب التعذيب التي اتبعت, واجراءات المحاسبة و العدالة التي اتبعتها راوندا بعد انتهاء الإبادة إلى اليوم .
مساهمات المجتمع المدني في عملية المصالحة:
ساهم المجتمع المدني براوندا في عملية المصالحة وخاصة بما يتعلق بالمصالحة الاجتماعية و من أبرز المشاريع:
- قرى المصالحة: تم تنفيذ مشروع “قرى المصالحة” من قبل منظمة زمالة السجون الرواندية (Prison Fellowship Rwanda – PFR)، وهي منظمة تعمل بالشراكة مع حكومة رواندا بالإضافة إلى منظمات دولية مثل وكالات الأمم المتحدة لدعم المصالحة والتمكين الاجتماعي والاقتصادي. تم تصميم المشروع بناءً على حاجة الطرفين إلى مأوى، مع الأخذ في الاعتبار التحديات المالية المتعلقة بذلك. لذا، استهدفت المنظمة الجناة السابقين للإبادة الجماعية والناجين الذين كانوا بحاجة إلى مأوى، وساعدتهم في بناءه معًا. ساهم الاتصال اليومي بين الأطراف في تغيير التصورات السابقة، خاصةً مع مرافقة ذلك بورشات حوار وحل مشكلات، مما ساعد على إصلاح العلاقات بينهم وتعزيز التفاهم والتعايش المشترك.
- إذاعة “الفجر الجديد” للمصالحة الرواندية: منصة إعلامية تم إنشاؤها لدعم جهود المصالحة الوطنية في رواندا بعد الإبادة الجماعية عام 1994. تهدف الإذاعة إلى تعزيز السلام والوحدة من خلال برامج تعليمية وثقافية تركّز على الحوار والتفاهم بين أفراد المجتمع. كانت الإذاعة واحدة من العوامل الرئيسية التي أدت إلى تصاعد الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، ومع ذلك، لا تزال جزءًا أساسيًا من حياة الروانديين اليومية. قامت منظمة La Benevolencija، وهي منظمة غير حكومية، بإنتاج مسلسل إذاعي تعليمي يهدف إلى تعزيز المصالحة في رواندا. يتميز برنامج “الفجر الجديد“ بشخصيات خيالية تعكس شخصيات حقيقية، حيث تناول قضايا تهم كل رواندي، مثل انعدام الثقة بين الأطراف، الصدمات النفسية بعد الإبادة الجماعية، الفقر، والصعوبات الاقتصادية.
ما أتمناه اليوم في سوريا بأن نبدأ ببناء والتأكيد على هويتنا السورية الجامعة والتي تستظل تحتها هوياتنا الأخرى التي سعى نظام الأسد على تقويتها على حساب هويتنا السورية الأكبر لتعزيز الخوف والتفرقة بين السوريين. علينا أن نتعلم من راوندا بأننا أهل الأرض ونحن على دراية بمجتمعاتنا وثقافتنا, وذلك لا يعني رفض لتجارب وإجراءات المصالحة المعتمدة في بلدان ما بعد النزاع بل بخلق تجربة سورية تضيف لتجارب المصالحة بما يشبهنا حتى لو نظر لها المجتمع الدولي باستهزاء!
وفي النهاية من أهم ما تعلمته خلال رحلتي إلى راوندا يختصر بجملة من أحد الراونديين بعد أكثر من 30 سنة على الإبادة “المصالحة رحلة وما زلنا نخوض هذه الرحلة إلى الآن” علينا كسوريين أن نعي ذلك أيضاً وبأن أمامنا رحلة طويلة تحمل بطياتها الكثير من العمل والخطوات والتحديات على المستويات المختلفة، ولكل منا دوره لنصل إلى تحقيق العدالة لكل من قُتل وعُذب وهُجر ومحاسبة كل قاتل.
إعداد: تهاني اليغشي
ناشطة مجتمعية وباحثة في مجال النزاعات وبناء السلام. حاصلة على درجة الماجستير في إدارة النزاع والعمل الإنساني.