لم يكن يوماً جو العائلة في بيتنا يضفي علي نوعاً من الخوف من مجتمع الخارج، ولم أرى في منزلنا بؤرة المخاوف التي رأيتُها لاحقاً في مسلسلات التلفزيون أو برامج تتحدث عن مجتمع الأسرة والمساواة بين الرجل والمرأة، لطالما أشعرني والداي أن الأسرة هي حصيلة تعاونهما المشترك، وأن لا بد من وجودهما معاً في كل نواحي حياتنا لتكتمل الصورة، وحينَ كَبِرتُ قليلاً فهمت معنى الطرح الّذي كان شائكاً من حولي والمفاهيم المختلفة التي تتمحور في الأسر الأخرى وصرتُ أسألُ نفسي مراراً لماذا لا يكون المجتمع في بقية الأسر ومفاهيمها هو مفهوم التشارك باختلاف الأجناس؟ ولماذا يغدو التفاهم وقيام كل شخص بدوره فقط ضعفاً عند بعضهم؟
ولكي أفهم الصورة الحق كان لا بد أن أقرأ أكثر وأكثر عن فكرة التشاركية وأن أصل المفهوم يركز على قيام كل فرد بدوره بعيداً عن كونه ذا منصب أو مسؤولية، فالمسؤولية تبدأ من الفرد ومن ثم تنتقل إلى الأسرة، فكان مفهوم المجتمع المدني هو الأقرب لأفكاري فهو يولي الأهمية لأدوار أفراده في الوصول لمجتمع تشاركي آمن يلبي احتياجات مواطنيه، وقد وجدتُ ضالتي حين قرأت وأنقلُ هنا حصيلة قراءاتي تباعاً..
ماذا يعني المجتمع المدني؟
حين تطرقت لمفهوم الأسرة كنت أقصد المجتمع الصغير الذي يوصلنا لمجتمع أكبر هو مجتمعنا نحن باختلافاتنا وأطيافنا، وحين نقول مجتمع مدني فهذا المجتمع هو نحن من رجال ونساء أطفال وشبان باختلاف أدوارنا التي تجمعنا لنتكاتف ونحقق أهدافنا، ومن هنا جاء مصطلح المجتمع المدني الذي يعود إلى المجتمع الأوروبي الذي عاش مرحلة انتقالية حساسة تولدت خلالها المفاهيم والأفكار والمدارس الفلسفية معلنة بذلك عصر التنوير والحداثة والمجتمع المدني.
الجدير بالذكر أن هذه المفاهيم لم تظهر دفعة واحدة بل شهدت صراعات فكرية وتحولات هائلة في التجارة والاقتصاد والاكتشافات العلمية وأخذت وقتها حتى تبلورت إلى ما هيَ عليه، ونتيجة لذلك كان المجتمع المدني الذي يملأ الفضاء بين المجتمع والسلطة الحاكمة ويوصل بينهما في الوقت نفسه، مع الوضع في الاعتبار اختلاف طبيعة هذا المجتمع فلا يمكن مثلاً أن يكون مجتمعنا العربي كالمجتمع الغربي فلكل منهما خصوصيته وطبيعته وثقافته وهويته.
وإذا أردنا أن نعرف المجتمع المدني يمكن أن نعرفه حسب هيغل بأنهُ أحد مظاهر الدولة فيما تكون الأسرة هي المظهر الآخر، فالمجتمع المدني عنده هو تقسيم للعمل بين الشكل البسيط للخلية الاجتماعية (الأسرة) وبين الشكل الأعلى والأرقى وهو الدولة كما يرى أنهُ الحيز المستقل الّذي يستوعب المصالح الفردية بعيداً عن الدولة فهو الساحة التي تلتقي فيها مصالح الأفراد مع بعضها البعض لتحقيق الرغبات والأهداف الفردية.
ما هي مكونات المجتمع المدني؟
لم يكن نشوء المجتمع المدني نشوءاً قسرياً بل كان نتيجة حاجة ملحة من أبناء أي مجتمع، كأن يصل صوتك دون أن تكون القائد وكأن تشعر أن وجودك مهم ولك دور لا بد أن تقوم به حتى ولو كان ضئيلاً، وبالحديث عن مكونات المجتمع المدني فهيَ تتضمن عدة مكونات أساسية تتحدد فاعلية كل منها في مجال معين، نذكر منها:
أولاً: النقابات المهنية:
والتي تحدد المتغيرات الاقتصادية والمهنية حدودها، وتشكل النقابات عادة تكتل له وزنه وقوته بالنسبة الدولة والقطاع العام من ناحية والقطاع الخاص من ناحية أخرى.
ثانياً: المنظمات غير الحكومية:
التي تساهم وتعمل على تمكين المجتمع والمهمشين اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً.
فالتنظيمات والنقابات المهنية والاتحادات والنقابات العمالية، والمنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية التي تشمل المنظمات الحقوقية والدفاعية والنوادي الاجتماعية ومراكز الشباب وغرف الصناعة والتجارة وجمعيات رجال الأعمال ووسائل الإعلام ومراكز الأبحاث والدراسات ونواد المعلمين والجمعيات التعاونية جميعها وغيرها أيضاً من أهم مكونات المجتمع المدني.
إن جوهر مؤسسات المجتمع المدني يكمن في عدم الربح الخاص العائد لفئة معينة أما في حال قامت هذه المؤسسات بأعمال اقتصادية بهدف تدوير الربح للمؤسسة بهدف خدمة النفع العام، فذلك جائز لضمان توفير الدعم اللازم للمؤسسات وضمان استقلاليتها واستمراريتها.
ما أهميّة المجتمع المدني؟
هنا لا بد أن نتحدث ببساطة من منطلق كل شخص ساهم وبشكل بسيط من موقعه بأن يكون جزءاً من هذا المجتمع المدني، لتغدو التّجارب والنتائج الواقعية هي أبرز مثال عن أهميته، فكم أسهمت مؤسسات المجتمع المدني في تقديم المعرفة كضد للجهل حين عرفنا مناطقنا ومدننا النائية واحتياجات أشخاص في أحياء لم نكن نسمع بها، وكم استطعنا مواجهة مشاكل حين تكاتفنا كفرق شبابية وفكرنا حتى وصلنا لحلول معاً فأثبتت لنا أن الحياة لا يمكن أن تكون نتاجاً فردياً لتنجح بل تقوم على التشاركية وسماع الآخر والأخذ بالآراء، وكم أسهمت على سبيل المثال الدّورات الفعلية التي أقامتها هذه المؤسسات للشباب خاصة في كسر حاجز الخوف وتقوية الشخصيات الشبابية لتعبر عن نفسها، ومنها من كان لها دور في تعليم الشباب مهن ساهمت في شق طرقات مستقبلهم أو فتحت لهم مشاريع يحلمون بها فأنعشت الاقتصاد وقت الركود، ولو قضوا عمرهم يسعون لجمع تكاليفها ما استطاعوا، ومنها من كان لها دور في محو أمية السيدات وكان لها دور في معرفة حقوقهم المجتمعية وكانت عوناً لهم بتقديم دورات مهنية كالخياطة لتعلم اللغات وحتى في تقديم الخدمات الطبية المتنوعة، ومنها من أعطى الحقوق وعلم التمييز بينها وبين الواجبات.
مؤسسات المجتمع المدني كان لها الدور في إيصال الصوت الثقافي والاجتماعي وفي توضيح كثير من المفاهيم والمعلومات وفي القيام بحركة اقتصادية درت الأموال، وحتى حين أخفقت ببعض الأماكن وحلت الخلافات محلها كان لهذا الإخفاق آلية الحماس للبدء من جديد وتصحيح الأخطاء وكان يكفي من كل هذا الطاقة القوية التي تملأ المكان بالعمل بالحياة بالاجتماعات والاستثمارات والأفكار.
رجل.. امرأة.. ومجتمع مدني؟!
لا يمكن القول أننا وصلنا بعد إلى مجتمعات مدنية حقيقية لأننا لا نزال حتى الآن مثلاً نفرق بين المرأة والرجل في المجتمع، كما لا نزال بحاجة لتمكين الأفراد باختلاف أجناسهم وأعمارهم في المجتمع ليتمكنوا من التعامل مع مصاعب الحياة بتنوع أسبابها، والعمل على دراسة النزاعات وحلها وتعزيز القيم المجتمعية وضمان انعكاسها على السلوكيات في المجتمع، وحين بدأت المقال بمفهوم الأسرة الصغيرة كنت أركز على فكرة التشاركية لأن المجتمعات المدنية لا يُمكن أن تُبنى على جهود شخص فقط إنما هو عملية تشاركية نبنيها حين نبدأ من هناك ونعلم أبناءنا أدوارهم وألا يكون هناك مفهوم خاص بدور أحد بعينه….
هل يستطيع أحد نكران دور المرأة اليوم في تحقيق أمن المجتمع وهل يمكن لمجتمع أن يغدو قوياً بدون جهود نسائه وإمدادهن بكل احتياجاتهن بدءاً من التعليم الذي بات حق ضروري لكل سيدة لتكون فاعلة في هذا المجتمع، ففكرة أنها عماد الأسرة لم تعد جديدة بل غدت واقع نلمسه حين نرى أسر قد غاب فيها أحد الوالدين، فالمرأة والرجل هما حليفان أساسيان لقيام مجتمع مدني صحي، ولا يمكن لأحدهما أن يمحي دور الآخر لأنهما أساس أي مجتمع فالمجتمع لا يكبر إلا بأبنائه ولا يغدو قوياً إلا بتضافر جهود الجميع وقيام كل منا بدوره… دوره وحسب.
وأخيراً…
هل من الممكن أن نصل لمجتمع مدني حقيقي دون جهود تشاركية متكاتفة تبدأ من مفهوم الأسرة في المنزل الصغير ومعرفة كل فرد دوره في المجتمع دون التقليل من جنس الفرد لنصل إلى مفهوم الأسرة الكبيرة في المنزل الكبير، ونحقق حياة مدنية آمنة شاملة لكل من التعليم والتمكين والتنمية المستدامة وسبل العيش ليصل كل فرد فيها إلى احتياجاته ويشعر بصوته وبكيانه وبأحقيته…