في المجتمعات التي مزقتها الحروب الأهلية أو أنهكتها سنوات من الحكم الاستبدادي، لا يكون الخروج من الظلمة مجرد مسألة سياسية، بل رحلة طويلة نحو الشفاء الجماعي. العدالة الانتقالية تُعدّ من أكثر المفاهيم تعقيدًا وجرأة في هذه الرحلة. فهي ليست مجرد سلسلة من المحاكمات أو تقارير ولجان فحسب؛ بل هي محاولة لفهم الماضي، والاعتراف بالألم، وبناء مؤسسات تليق بكرامة الإنسان.
في الحقيقة؛ ليست العدالة هي الانتقالية، إنما السلطة التي تمارس العدالة والفترة التي تمارس فيها هي الانتقالية، فهي إذاً وسيط مساعد على الانتقال من مرحلة سياسية إلى أخرى، متخذة طابعاً تحقيقاً وقضائياً لكشف ملابسات الجرائم الجسيمة التي حدثت في المرحلة السابقة.
لكن تبقى التساؤلات قائمة: هل تستطيع العدالة الانتقالية وحدها أن تضمن المصالحة الدائمة؟ أم أنها -في أفضل أحوالها- مجرد مرحلة نقاهة مؤقتة، تسبق نكسة التوترات؟
ماهية العدالة الانتقالية: مقاربة لتحقيق العدالة
تُعرّف مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان (OHCHR) العدالة الانتقالية بأنها الطريق الذي تسلكه المجتمعات الخارجة من نزاعات أو أنظمة قمعية لمعالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وبناء مستقبل أكثر عدالة وشمولية.
ووفقاً للمركز الدولي للعدالة الانتقالية (ICTJ) تشير العدالة الانتقالية إلى كيفية استجابة المجتمعات لإرث الانتهاكات الجسيمة والخطيرة لحقوق الإنسان. وهي تطرح بعضًا من أصعب الأسئلة في القانون والسياسة والعلوم الاجتماعية، وتتناول معضلات لا تُحصى. والأهم من ذلك، أن العدالة الانتقالية تُعنى بالضحايا.
ويؤكد أيضاً أن هذه العملية لا تهدف فقط إلى محاسبة الجناة، بل تشمل أيضًا الاعتراف بالضحايا، واستعادة الثقة في مؤسسات الدولة، وتفكيك السرديات الرسمية التي ساهمت في الانقسام المجتمعي.
ويلاحظ أن مصطلح العدالة الانتقالية تركيبي، يتكون من شقين: الأول هو العدالة التي تعني اصطلاحاً عدم الانحياز في محاكمة أي إنسان لأي أمر، وهي مفهوم أخلاقي، يقوم على إحقاق الحق والأخلاق، والعقلانية والإنصاف أما الشق الثاني فهو الانتقالية والمقصود بها حالة النظام المنتقل أو المتحول من حالة غير مفضلة إلى حالة مفضلة (الديمقراطية).
أصدر الرئيس السوري مرسوماً بتشكيل هيئة للعدالة الانتقالية تتولى كشف الحقائق بشأن انتهاكات النظام السابق، ومحاسبة المسؤولين عنها، وجبر الضرر الواقع على الضحايا.
المرسوم رقم (20) لعام 2025 Tweet
مبادئ العدالة الانتقالية: الأساس الأخلاقي والقانوني لمرحلة التحول
لا تقوم العدالة الانتقالية على الإجراءات القانونية فقط، بل تُبنى على مجموعة من المبادئ الأخلاقية والحقوقية التي تُشكّل مرجعيتها الأساسية. وفقًا لمفوضية الأمم المتحدة (OHCHR)، تستند العدالة الانتقالية إلى أربعة أعمدة مترابطة:
- الحق في معرفة الحقيقة.
- الحق في العدالة.
- الحق في جبر الضرر.
- ضمانات عدم التكرار.
حدد الباحث “بول فان زيل” مبادئ للعدالة الانتقاليةكركائز لا غنى عنها لنجاحها:
– المحاسبة: محاكمة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة، خاصة تلك التي تشكل جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. هذا المبدأ يعكس رفضًا لثقافة الإفلات من العقاب، كما حدث في محاكمة قادة الخمير الحمر في كمبوديا.
– كشف الحقيقة: توثيق الانتهاكات عبر آليات مثل لجان الحقيقة، التي تمنح الضحايا مساحة للإدلاء بشهاداتهم. في جنوب إفريقيا، لعبت “لجنة الحقيقة والمصالحة” دورًا محوريًا في كشف فظائع نظام الفصل العنصري.
– التعويضات: تشمل تعويضات مادية (كالمنح المالية) أو رمزية (كالاعتذار الرسمي). في المغرب، قدمت “هيئة الإنصاف والمصالحة” تعويضات لضحايا سنوات الرصاص، رغم انتقادات حول محدودية تأثيرها.
– الإصلاح المؤسسي: إعادة هيكلة أجهزة الدولة القمعية، كالقوات الأمنية والقضاء، لمنع تكرار الانتهاكات. فعلى سبيل المثال كولومبيا، شمل إصلاح الشرطة تدريبًا على حقوق الإنسان كجزء من اتفاقية السلام مع “الفارك”.
ولا بد أن تُطبّق هذه المبادئ ضمن رؤية شاملة لا تُختزل في لجان مؤقتة أو قرارات سياسية، بل تتطلب التزامًا طويل الأمد بمسار حقوقي وإنساني متكامل.
أقول للضحايا الآخرين الذين يناضلون من أجل الحقيقة والعدالة: ثقوا بنفسكم. فما مِن أمر مستحيل. تحلوا بالأمل وآمنوا بقوتكم. آمنوا بنوركم.
ياسمين المشعان، مدافعة سورية عن حقوق الإنسان Tweet
آليات تطبيق العدالة الانتقالية
تتنوع آليات العدالة الانتقالية لتشمل:
- المحاكمات الدولية أو المحلية: مثل المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة، أو محاكم “غاتشاتشا” في رواندا، التي شارك فيها المجتمع المحلي في محاكمة المتورطين بالإبادة الجماعية.
- لجان الحقيقة: كتجربة غواتيمالا، حيث كشفت اللجنة عن 200 ألف حالة إعدام غير قانوني خلال الحرب الأهلية.
- برامج التعويضات: كبرنامج “جبر الضرر” في تونس بعد الثورة، الذي واجه تحديات بسبب ضعف التمويل.
- إصلاح المؤسسات الأمنية: كحل أجهزة الأمن السري في الأرجنتين بعد سقوط الدكتاتورية العسكرية.
- إحياء الذاكرة الجماعية: عبر متاحف أو نصب تذكارية، كمتحف الذاكرة وحقوق الإنسان في تشيلي لتخليد ذكرى ضحايا بينوشيه .
والجدير بالذكر أن فصل هذه الآليات عن بعضها يُضعف أثرها؛ إذ لا يمكن تحقيق العدالة دون معرفة الحقيقة، ولا فائدة من الإصلاح إن لم يحاسب مرتكبوا الجريمة.، حيث تتيح كسر ثقافة الإفلات من العقاب الشفاء النفسي للضحايا ومنع تكرار العنف.
هل تكفي العدالة الانتقالية لتحقيق مصالحة دائمة؟
الجواب معقد. من جهة، توفر العدالة الانتقالية فرصة نادرة للاعتراف بالماضي وإنصاف الضحايا ومحاسبة الجناة. لكن من جهة أخرى، تبقى هذه الإجراءات غير كافية إذا لم تُرافقها تحولات ثقافية واجتماعية واقتصادية عميقة.
ولهذا يحذر الباحثون في العدالة الانتقالية من الاكتفاء بالأدوات القانونية، داعين إلى ربطها بمشروع وطني شامل يعالج جذور الصراع لا أعراضه فقط.
لا يمكن تحقيق سلام دائم دون مواجهة الماضي بشجاعة والاعتراف بالضحايا.
تقرير المفوضية السامية لحقوق الإنسان حول العدالة الانتقالية Tweet
العدالة الانتقالية: تحديات تحول دون نجاحها
يشكل غياب الإرادة السياسية عائقاً لا يمكن تجاهله، فقد يكون هناك تردداً أو مقاومة من قبل القادة السياسيين لإجراء محاسبة حقيقية، خوفًا من فقدان النفوذ أو إثارة الفوضى. كما أن الأنظمة القضائية قد تكون غير مستقلة أو غير قادرة على التعامل مع حجم الجرائم والانتهاكات المرتكبة، ما يؤدي إلى غياب المساءلة الفعالة.
ولا ننسى أن المجتمعات الخارجة من النزاعات غالبًا ما تكون مشحونة بالانقسامات العرقية أو الطائفية، مما يجعل تحقيق العدالة أمرًا حساسًا.
إن استمرار العنف أو التهديدات الأمنية يشكّل عقبة أساسية إذ قد يخشى الضحايا والشهود من الإدلاء بشهاداتهم، وأخيراً يمكن أن تؤثر التدخلات الخارجية والمصالح الدولية على مسار العدالة الانتقالية، حيث يتم دعم بعض الأطراف على حساب محاسبة الجناة.
العدالة ليست حدثًا… بل مسار
في النهاية، العدالة الانتقالية ليست وصفة جاهزة تُطبّق بنسق موحّد في كل مجتمع، بل مسار طويل ومعقد يتداخل فيه التاريخ، والثقافة، والإرادة السياسية، ووعي الناس، في أفضل أحوالها، تعيد الكرامة للضحايا، وتمنع تكرار المآسي، وتبني أرضية صلبة لمستقبل أكثر تماسكًا. أما إذا فُقدت الإرادة أو حُصرت العدالة في الشكليات، فإنها لن تكون أكثر من قشرة هشّة تغطي صراعات تنتظر لحظة الاشتعال.
فهي رغم محدوديتها، تظل ضرورية لبدء رحلة المصالحة. لكن نجاحها يعتمد على تحوّلها من إجراءات قانونية إلى مشروع مجتمعي يلامس جذور الصراع. كما قال الفيلسوف “جون رولز”: “العدالة ليست مجرد قواعد، بل هي أساس المؤسسات الإنسانية”. وهكذا، تبقى العدالة الانتقالية خطوة أولى على طريق طويل، حيث المصالحة الحقيقية هي ابنة الإرادة السياسية والعدالة الاجتماعية معًا.
إعداد المقال: رنيم الحاج حسن
اقرأوا أيضاً: بعض من خطوات راوندا نحو المصالحة