لطالما تمحورت جهود بناء السلام حول طاولات المفاوضات الرسمية، وتحت رعاية المبادرات الدولية، حيث كان يُنظر إلى الفاعلين ضمن المجتمعات المحلية أنهم مجرد مستقبلين للقرارات، لا شركاء في صناعتها. ومع أن هذه المقاربة قدّمت حلولاً على الورق، إلا أن التجربة أثبتت، مراراً وتكراراً، أن السلام الذي يُفرض من الأعلى يظل هشاً، سرعان ما يتصدّع مع أول هزّة اجتماعية أو سياسية.
ففي بلدان مثل سوريا، حيث تناثرت ملامح المجتمع وتفكّكت البُنى الاجتماعية بفعل سنوات طويلة من النزاع، لم تُفلح الاتفاقات السياسية وحدها في استعادة النسيج المجتمعي، ولا في رأب الصدع بين مكوّناته. السبب بسيط وعميق في آن: المصالحة لا تُبنى في القاعات المغلقة، بل في الأزقة الضيقة، على عتبات البيوت، وفي اللقاءات التي تستعيد الثقة بين الجيران الذين فرّقتهم البنادق.
السلام ليس وثيقة… بل عملية حيّة تقودها المجتمعات المحلية
السلام، في جوهره، ليس اتفاقاً يُوقَّع بل مسار طويل يتطلّب إشراك كل من تضرر وتورّط وتأثر. وهو يبدأ من الاعتراف بالذاكرة الجمعية للناس، بما تحمله من مآسي، وحنين، ومظالم، ويستمر في معالجة الأسباب الجذرية للصراع، من فقر وتهميش وغياب عدالة.
المجتمعات المحلية ليست فقط أدرى بتفاصيل حياتها، بل تمتلك كذلك أدوات فريدة لفهم تعقيدات الصراع. هذا الفهم العميق ينبع من التجربة، من معرفة من هو من، ومن تفكيك الشبكات الاجتماعية المعقّدة التي لا تراها المبادرات الدولية ولا تصل إليها تقارير المنظمات.
هذه المجتمعات المحلية تملك شرعية لا يستطيع المفاوضون حملها، مهما ارتفعت مناصبهم أو دعمتهم العواصم الكبرى. شرعية مستمدة من الأرض، من التاريخ المشترك، ومن الروابط التي نُسجت على مدى عقود، ثم تهشّمت في غفلة من الزمن.
من التهميش إلى القيادة: التمكين لا الاستشارة
إشراك المجتمعات المحلية لا يعني دعوتها إلى ورش عمل شكلية، ولا الاكتفاء بسماع آرائها، بل يعني نقل زمام القيادة إليها. ويعني الاعتراف بحقها في أن تكون شريكاً أساسياً في رسم السياسات، وتخطيط المبادرات، وتنفيذ المشاريع.
هذا الانتقال من موقع التلقي إلى موقع القيادة يتطلب تغيّراً في العقلية الأممية والمحلية على السواء. لم تعد المجتمعات مجرد مستفيدة، بل هي المُنفّذة، والراعية، والحامية لأي مشروع سلام حقيقي.
ويتحقق هذا من خلال تشكيل لجان أحياء، دعم الجمعيات الأهلية، وتعزيز المبادرات الشبابية، التي على تماس مباشرة مع واقع الناس وهمومهم، وتُعيد بناء ما تهدّم من جسور الثقة والانتماء.
“مبادرون”: تجربة حيّة في إعادة تموضع المجتمعات المحلية
في هذا السياق، برزت مؤسسة “مبادرون” كمثال ملموس على قدرة المجتمعات على التحول من حالة السكون إلى الفعل. فقد عملت هذه المؤسسة على تشكيل لجان محلية في عدد من المناطق السورية، بهدف تفعيل دورهم في عملية المصالحة المجتمعية.
لم تكن هذه اللجان وسطاء محايدين فحسب، بل كانوا نُقاط التقاء بين الجيران، حاملي رسائل سلام، وساعين جادين لإعادة ترميم الثقة في الحي، وتسهيل الحوارات المجتمعية بين مكونات عانت من القطيعة والتشظي.
كما دعمت المؤسسة مبادرات ترميم رمزية، مثل إعادة تأهيل أماكن اللقاءات العامة، أو تنظيم فعاليات تذكّر بالماضي المشترك، دون إنكار الجراح. وهو ما أعاد إحياء ذاكرة مجتمعية كانت آيلة للنسيان، ووضع الناس مجددًا في قلب العملية، لا على هامشها.
السلام الاجتماعي… عمل يومي لا موسمي ضمن المجتمعات المحلية
الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه معظم مبادرات بناء السلام هو النظر إلى العملية كـ”حدث”، لا كمسار. إذ غالباً ما تُصب الموارد في لحظة محددة، ثم يُترك المجتمع ليكمل الطريق وحده، ما يجعل النتائج عرضة للنكوص.
أما السلام الحقيقي، فهو عملية مستمرة، تتطلّب حضوراً دائماً، وقيادة محلية تعرف كيف تستشعر نبض الناس، وتلتقط التغيّرات الدقيقة في المزاج العام، قبل أن تتحوّل إلى انفجار جديد.
من هنا، فإن لجان السلام المحلية ليست خياراً بديلاً عن الحلول السياسية، بل هي القاعدة الصلبة التي تُبنى عليها تلك الحلول. وإذا لم تكن المجتمعات نفسها جزءاً من السلام، فلن تكون جزءاً من استدامته.
مهندسو السلام… ليسوا دبلوماسيين بل جيران
من اللافت أن العديد من مهندسي السلام الفعليين لم يدرسوا العلاقات الدولية، ولا يرتدون البدل الرسمية. بل هم شباب الحي، أو معلمة سابقة، أو طبيب ميداني، أو حتى خباز يعرف زبائنه بالاسم. هؤلاء هم الذين يحملون مفاتيح الثقة، ويمتلكون الجرأة للحديث مع الجميع، مهما كانت الانقسامات عميقة.
هم الذين يستطيعون الوقوف في وجه الشائعات، ومعالجة الاحتقان، وتهدئة النفوس، لأنهم يعرفون الناس، ويُعرفون بينهم. وإن كان لا بد من تسمية دقيقة، فـ”مهندسو السلام” هؤلاء هم بالفعل العمود الفقري لأي مصالحة حقيقية.